صفحة من تأريخ حياتي

سبت, 05/13/2023 - 18:46

 

فائزة محمد علي الفدعم

في نهاية الاربعينات كنت طفلة صغيرة ، وكان جامع الشابندر يقع مقابل بيتنا ويفصله عنا نهر خريسان ، كانت ليلة الجمعة مختلفة عن باقي الليالي ، المأذنة بعد صلاة العشاء تصدح بصوت جميل بالتمجيد وهو حمد الله والثناء عليه والاضاءة كانت خافتة ولا تزال عالقة في ذهني كلمات رددها المقرئ وهي ( ما مجدناك حق تمجيدك يا معبود ) وفي ذات الوقت كانت تظهر بعض النسوة وهنَّ قادمات من امام حمام صبحي ، يتجولنّ مخفيات الوجوه بواسطة العباءة ولا تظهر سوى عين واحدة والاخرى مغطاة وهذا هو حال النساء في وقتها للاستتار عن العيون وكنَّ يمشينّ في الشارع لأخذ ( الخيرة ) ومعرفة الطالع ( البخت ) أو لطلب الذرية أو ماشابه ذلك من أمور دنيوية فيعمد الشباب لإسماعهن بعض الكلام الجميل واحيانا يكون بعضه غير لائق وكنّ يعتقدن انه سيكون حقيقة واقعة وكُنَّ ينتظرن كلمات الشباب بفارغ الصبر وهم يعرفون ذلك ، فاذا قال احدهم عبارة ( الله كريم ) فهذا يعني انه يجب الصبر واذا كانت عبارة ( ان شاء الله ) تفرح الفتاة لقرب زواجها واذا كانت متزوجة وتطلب انجاب الولد تفرح لان امنيتها ستتحقق ، واذا سمعت احداهنّ مثلا عبارة ( حسين ابو علي ذريته كلهم من الذكور ) عند ذلك تطير فرحاً ، وهكذا الى ما لا نهاية  .وكان اكثر الشباب أذكياء يتقصدون اسماع النسوة ما يسرهنّ ، وكانت النساء مع الفتيات يعتقدنّ ويصدقنّ بهذا الكلام الذي يعطيهنّ الأمل لأن ليلة الجمعة مباركة  .

 

 

كان مقابل دارنا انذاك سُلَّم أمامه دكة تنحدر الى نهر خريسان يسبح فيها الأطفال صيفاً ويرمون انفسهم من اعلى الدرج وكان هناك احيانا بعض النسوة يحملنّ بايديهنّ (كربة ) وهي الخشبة التي تنتهى بها سعفة النخلة وملصقة عليها الشموع وبحذر شديد تضعها المرأة في النهر وتدفعها بعصا طويلة لتصل الى مُنتصفه . تمر اضواء الشموع من تحت القنطرة التي يصطف عليها الشباب وهم فرحين ينظرون اليها حتى تختفي  .وكانت الجمعة يوماً للصدقات والبر والاحسان للمصلين ولوالدي الذين كانوا يضعون الخردة في جيوبهم والمكونة من فئات نقدية منها الدرهم والعشر فلوس والعانة التي يتصدق بها الناس على المحتاجين المصطفين على جانبي باب الجامع ، وبعد الانتهاء من هذه المراسيم يعود أبي لأخذ القيلولة ، التي كانت واجبة  فقد ورد عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قيلوا فإن الشيطان لا يقيل )  

 

 

وفي صباح اليوم التالي وهو السبت كنت استيقظ مبكرة وأعبر قنطرة الشابندر الى بيت السيد (ناجي نسيمة ) الذي كانت داره قرب الست مومنية لاشتري منه الكبة عددها إثنان سعر الواحدة عشر فلوس واخذها معي بعد ان اضعها داخل سفرطاس مكون من ثلاث طوابق .. الثاني اضع فيه الشوربة وكان لذيذا جدا اما الطابق الثالث فاضع فيه نصف رغيف خبز وبعدها تغلقه الوالدة باحكام وعادة عند ذهابي لشرائها اتأخر لان ابنة السيد ناجي (السيدة خيرية ) كانت صديقتي المقربة وكنت اتفرج على والدتها وجدتها وهم يضعونها في قدر كبير وعندما تنضج يضعها السيد ناجي على كتفه فوق حماله من الخشب ويقف امام دكان السيد حسن غايب لبيعها ، كانت لذيذة جدا فهي من لحم الغنم الخالص وتنفذ بسرعة لذلك كنت اذهب مبكرا لشرائها وبعدها اذهب مع والدي للاشراف على بناء الدار الجديد في منطقة ( المَنجَرة ) التي كانت منطقة مُحببة الى قلوب الجميع في ذلك الزمان ، وعندما كنا ندخل الفرع كان اول بيت يصادفنا هو بيت ام عادل مدير الخزينة ويقابله دار السيد احمد سعيد والد الست نجاة ابنة الست بدرية المُتبناة وكنا نزورهم لانهم اصدقاء الوالد وبجوار السيد ابو عادل بيتا آخر يعود لوالدي كان سابقا دائرة ( الگمرگ والمكوس ) واصبح فيما بعد مدرسة ليتحول بعدها اسطبل للخيل يعود له أيضا ، وكانت هناك فروع اخرى لا على التعيين اذكر منها بيت السيد عبد الوهاب ابو علي والد السيدة فاطمة زوجة السيد جودي واختها الست فائزة والست فريال وبيت ابو طارق وبيت السيد كرم الخشالي وبيت السيد عبد الوهاب الخشالي ابو صالح وبجوارهم الصايغ الصابئي الديانة (داخل ) واذكر بناته منهم فقط قيسه وبلقيس وليلى التي كانت صديقتي وكنا نتزاور اثناء العطل والمناسبات ، وكان في نفس الدربونة بيت جميل اذكره جيدا ولا انساه ، على بابه قطعة ذهبية مكتوب عليها اسم ( الدكتور اسكندر رومان ) وتدور الايام لتصبح زوجته المصرية الست فائزة يعقوب سليمان رحمها الله من اعز الصديقات ، وكان مقابل بيتهم بيت السيد ابو شهاب احمد البدري والسيد محمد والسيد صبيح مدير مدرسة الطليعة لاحقا .

 

 

كانت هناك امرأة تدعى (فرجة ) تجوب البيوت والكل يحبها وكان سكنها بعيدا عن منطقتنا وامورها المالية متعسرة وفي كل ليلة جمعة تزور المحلة وتبيت عند واحد من الجيران وكان هناك رجل يتقصدها وكلما يراها يقول (من صوفتها وچتفّها ) وهو مثل قديم يقصد به كل شيء عند الله بمقدار وكذلك كل من يراها كان يُردده فسميت بهذا المثل (من صوفتها وجتفّها ) فحين تقال هذه العبارة فتُعنى بها المرأة فرجة . في يوم من الايام وبينما كان والدي مستلقي من تعب مراقبة العمل في البيت لإكمال بنائه طرقت باب منزلنا امرأة رحبت بها الوالدة فسألت ( الحجي موجود ) فأجابتها بالايجاب . استقبلتها ودخل الغرفة ورحب بها فعرّفته بنفسها وقالت له انا جارتكم التي تبنون بجانبها داركم المعمورة في المنجرة وعندما قمنا بمتابعة الخارطة والتدقيق فيها اخبرني المساح انك تجاوزت على بيتنا بمتر واحد . فقال لها والدي سوف أتأكد من الأمر لان هذا حرام ، ووعدها خيراً وعند الصباح اجري اللازم وظهر إنها كانت صادقة في ادعائها وعادت في اليوم التالي لتحسم الامر فقال لها اختي الكريمة اشتري منك التجاوز فرفضت وقالت اريد حقي وهو المتر الواحد ، وكان والدي قبل يومين قد اتم صبَّ سقف الدار المذكور وبذل جهدا كبيراً فطلب من الخلفة والعمال هدم البناء كله واعطاها حقها وهي شاكرة حتى أدمعت عينيها وقد تعرض الى اللوم من الجيران والاهل فقال لهم ورد في الحديث عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ .

 

 

 

  

انها الشهامة والخوف من عقاب يوم القيامة . كانت الغيرة والعدل وعدم التقرب من الحرام قيم سائدة في ذلك الوقت  . هذه المرأة الجليلة لم تنسى مافعله والدي وهي من سكنة كركوك وكانت كلما زارت بعقوبة تزورنا ومعها الحناء والجوز والليف وعلك الماء ولم تنقطع عن زيارتنا وهي (الحاجة امينة اخت السيد جدوع الحسيني )  واخت السيدة ام الدكتور هلال فائق البندر بالرضاعة كما كان سائدا قديما لزيادة المودة والتقارب بين الجيران . ولازلت لحدّ الان اتذكر صورة وجهها الذي لم انساه ابداً والذي يحمل ملامح الإمتنان بعد أن عادت الحقوق الى أهلها ..

 

 

جعلنا الله وإياكُم ممن عاش بالحلال حتى يلقى الله  .

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف