الحملة الأمنية الأخيرة في السعودية

أحد, 10/15/2017 - 15:09
العرب - السعودية

تشهد السعودية منذ العاشر من أيلول/ سبتمبر الماضي سلسلة متتالية من الاعتقالات شملت أفراداً ينتمون إلى شرائح مختلفة من المجتمع، بمن فيهم أساتذة جامعات ورجال دين ورجال أعمال وإعلاميين…

كررت البيانات الرسمية المتتالية إن الاعتقالات شملت “عناصر تعمل لصالح جهات خارجية ضد أمن المملكة ومصالحها ومنهجها ومقدّراتها وسلْمها الاجتماعي، بهدف إثارة الفتنة والمساس باللحمة الوطنية”.

ويفهم أن الجهات الأجنبية المقصودة هي حركة الإخوان المسلمين وقطر. من جهتها، تباينت تفسيرات المراقبين الخارجيين لتلك الاعتقالات التي طالت نشطاء في المعارضة، إلا إنها شملت أيضاً أشخاصا معروفين بولائهم المعلن للحكم السعودي وكانوا من السباقين لإعلان البيعة لولي العهد الجديد.

حين كان “الصمت يخدم الوطن”

لم تفاجئ حملة الاعتقالات الأخيرة متتبعي تاريخ القمع في السعودية لكنها بالتأكيد صدمت كثيرين. ومن بين هؤلاء سعوديون روّجوا لولي العهد الجديد وساهموا في حملة العلاقات العامة التي قدمته أميراً إصلاحياً. ولا شك إن من بينهم من كان مقتنعاً بأن محمد بن سلمان سيدشن عهداً جديداً، ينقل النظام السياسي في بلادهم من العصور الوسطى إلى القرن الواحد والعشرين.

ولعل أبرز من عبّر عن صدمته إعلامي سعودي كتب بعد لجوئه إلى الولايات المتحدة الأمريكية مقالاً عنوانه “لم تكن السعودية دائماً قمعية إلى هذا الحدّ. الآن هي لا تطاق” (واشنطن بوست 18/9/2017).

بعيداً عن أحاسيس الصدمة وخيبة الأمل التي عبّر عنها كثيرون، فلا يمكن اعتبار حملة الاعتقالات الأخيرة تغيّراً في أسلوب تعاطي السلطة السعودية مع معارضيها أو مع من تشك في ولائهم لها. فلم يسلم من سيرة القمع طيلة أكثر من سبعة عقود على نشأة المملكة فئة أو شريحة أو منطقة. ولم تخلُ السجون السعودية يوماً من سجناء الرأي، ولم يتوقف أبداً تعريضهم للتعذيب الذي أودى بحياة الكثيرين منهم.

نعم، كان أكثر القمع في خمسينيات وستينيات القرن الماضي موجهاً لنشطاء الحركات العمالية واليسارية والقومية. ومنذ سبعينيات ذلك القرن وحتى الآن، شمل القمع أيضاً نشطاء الشبكات والتنظيمات حديثة النشوء المطالِبة بحقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة.

طيلة تلك العقود، دافع إعلاميو النظام عن انتهاكاته لحقوق الإنسان وأشاحوا أنظار الناس عن فساده. وحتى حين كان النظام يجد سبباً للمفاخرة العلنية بتجاوزاته، فهو كان يجد بين النخب من يبرر له أفعاله. من جهتهم كان رجال الدين يُفْتون بما شاء ولي الأمر وظلوا يعلِّمون الناس إن طاعته هي من طاعة الله. وكان القضاة يحكمون دون مراعاة لضمير أو قانون بأقصى العقوبات على كل من اعتبرته السلطات معارضاً.  لقد اختار هؤلاء الصمتَ حين كان الصمتُ مجزياً.

فتجاهل الإعلاميون ورجال الدين أخبار الاختفاء القسري والموت تحت التعذيب، ولم يقبل القضاة روايات التعذيب التي تعرض لها المتهمون المعروضون أمامهم.  كذلك لم يخرج الموالون للنظام عن صمتهم، فمثلاً، حين جرى تفريغ عشرات القرى والبلدات في جنوب البلاد من سكانها، ولا حين صدر الحكم على مغردٍ بالسجن وبألف جلْدة.

لهذا لم يكن مستغرباً صمت إعلاميي السلطة ووعّاظها وغيرهم من النخب الموالية عن حصارٍ فرضته أجهزة الأمن السعودية قبل أربعة أشهر على بلدة “العوامية” في المنطقة الشرقية. بل وبرّر كثيرون منهم بحجج شتى ذلك الحصار الذي أدى إلى تهجير الآلاف من سكان البلدة وهدم منازلها وتغيير معالمها التراثية.

 لا وقت للشماتة

ليس ثمة جدوى من التذكير بدلالات المثل السائر “أكلتُ يوم أُكلَ الثور الأبيض”.  فما كان يجب أن يُفاجأ أحدٌ من الموالين للسلطة، سواءً حسبوا أنفسهم حلفاء أو أنصاراً أو جنوداً، حين تتخلى عنهم أو حين تخذلهم.  فالعائلة الحاكمة في السعودية لم تتحالف طيلة تاريخها إلا مع أقرانها في القوة.

لكن لا يمكن التقليل من عمق الإحساس بالصدمة بل وخيبة الأمل التي يشعر بها كثيرون ممن عوّلوا على حصانة يوفِّرها لهم تاريخهم الطويل في خدمة النظام السعودي.

فهم تعوّدوا ألا تزيد عقوبة من يتخطى حدوده منهم على فركة أذن أو الإبعاد عن مجال نشاطه لمدة يحددها وليُّ الأمر. كما لا يمكن تخفيف طعم المرارة التي يحسّ بها أولئك الذين اعتبروا أنفسهم شركاء -وإن صغاراً – مع العائلة الحاكمة في الدولة فإذا بها تخذلهم وتعاملهم كما كانت تعامل الشيوعيين والقوميين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

لم يتصور كثيرون ومن بينهم ذلك الإعلامي السعودي البارز الذي وجد نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى أمريكا أن تصل موس النظام إلى لحاهم وهم قد خدموا النظام السعودي لعقودٍ طويلة في أجهزة الإعلام أو المؤسسات الدينية أو أجهزة القضاء. فلا شك إن السعودية ــ بالنسبة لهم وحدهم ــ لم تكن قمعية إلى هذا الحد، وإنها الآن ليست “السعودية التي أعرفها” حسب قول الرجل.

استحضار الكواكبي

لا يمكن للاستبداد، كما رأى الكواكبي قبل مئة وعشرين سنة، أن يستمر بدون أعوانٍ، لكل فئة منهم دورها المعلوم وزمانها وظرفها. إلا أن أخطر الأدوار منوطة بفئة “المتمجدين” كما سماها. وهي فئة من الناس يحرص كل نظام استبدادي على:

“إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر بالأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها. فيَسُوقها مثلا لحرب اقتضاها محض التجبر والعدوان على الجيران، فيوهمها أنه يريد نصرة الدين، أو يسرف بالملايين من أموال الأمة في ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها. أو يتصرف في حقوق المملكة والأمة كما يشاء هواه باسم أن ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة”.

لم يشهد الكواكبي التقدم الهائل الذي شهدناه في العقود الأخيرة في مجالَي الإعلام والتواصل الاجتماعي. ورغم ذلك لاحظ أن فئة “المتمجدين” هي فئة واسعة وتزداد اتساعاً كلما اشتد الاستبداد.

فعليهم تقع مهمات “تغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو توسيع المملكة”. ورغم ازدرائه الملحوظ لهذه الفئة، إلا إنه لم يستصغر شأن أفرادها ولم يستعظمه.  فمن جهة، هم من لوازم الاستبداد الضرورية، فـ”بدونهم لا حول للمستبد ولا قوة”، ومن جهة أخرى فإن الواحد منهم لا يملك سلطة بذاته بل هو معرض للاستبدال وإحلال غيره مكانه ليغرف من ذهبِ المُعِّز وليضرب بسيفِه.

خطوة استباقية أم شطط آخر

قد تكون حملة الاعتقالات الأخيرة جزء من إجراءات استباقية اتخذتها السلطات السعودية، لا لخشيتها مما سيقوله او سيفعله من قامت باعتقالهم أو من نصحتهم بالنفي الاختياري، بل لكي يُردع غيرهم ممن قد تسوّل له نفسه المغامرة بالاعتراض على قرارات وإجراءات قادمة تترافق مع انتقال صولجان المُلْك من يد الأب إلى يد ولده.

ولعل من سخرية الأقدار أن تختار السلطة أن يكون أنسب من تضرب بهم المثل هم من “المتمجدين”، كما سمّاهم الكواكبي. فهؤلاء عملوا على إقناع الناس بـ”حرمة الخروج على وليّ الأمر أو التشهير به بل وحتى توجيه النصيحة له علناً”.

ولا غرابة في ذلك، فالسلطة السعودية تعوّل على ولاء كثيرين من ضحاياها. وهي تحسب إنها لم تخطئ التقدير حين يردد بعض ضحاياها من منافيهم أو من زنازين رمَتهم فيها إنهم ما زالوا ملتزمون بالبيعة للملك ولولي عهده.

من جهة أخرى ثمة ما يرجح احتمال أن تكون حملة الاعتقالات الأخيرة هي حلقة أخرى من سلسلة قرارات وإجراءات متخبطة لم يحسب الملك السعودي ولا ولدُه نتائجها وتداعياتها. أولى حلقات تلك السلسلة كانت إعلان “عاصفة الحزم” التي دمّرت اليمن واستنزفت السعودية مالياً وسياسياً وأخلاقياً. وما زال النزف مستمراً.

تلا ذلك توتير العلاقات بين أجنحة العائلة المالكة نفسها عبر الإطاحة في 2015 بولي العهد آنذاك مقرن بن عبد العزيز، ثم الإطاحة في 2017 بولي العهد التالي، محمد بن نايف وإحلال بن سلمان مكانه.

ثم جاء إعلان محمد بن سلمان عن “رؤية 2030” لإصلاح الاقتصاد السعودي التي رفعت حملات الترويج لها توقعات الناس. إلا أنه سرعان ما اتضح إنها مجرد رؤية مكتبية وإنها تحتاج إلى فرقٍ متخصصة تقوم بالدراسات وتقترح المشاريع وتضع الخطط اللازمة وترسم السياسات المطلوبة قبل الشروع في تنفيذ أيٍ من جوانبها.

ثم جاءت مشاركة السعودية الريادية في إشعال الأزمة الخليجية الأخيرة (مع قطر) التي فضحت هشاشة مجلس التعاون الخليجي ككيان إقليمي كما بيّنت عجز السعودية عن ممارسة دورها القيادي فيه.

والآن يرتكب بن سلمان حماقة أخرى حين يرفض الإقرار بأخطائه السابقة تمهيداً لمعالجة عواقبها ووقف تداعياتها.

فبدلاً من ذلك نراه مقتنعاً بقدرته على تخفيف الإحباط لدى الناس بتوجيه أنظارهم إلى جهات أخرى. ولهذا أعلن مؤخراً عن تأسيس “الهيئة العامة للترفيه” التي ستتولى “تنظيم وتنمية قطاع الترفيه في المملكة وتوفير الخيارات والفرص الترفيهية لكافة شرائح المجتمع”.

واستتبع ذلك بإطلاق حملة أمنية تثبِّت جدار الخوف في المجتمع وتذكّر معارضيه ومواليه على حد سواء بأن لا حصانة لأحد.

* د. عبد الهادي خلف كاتب بحريني أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة لوند السويدية

وكالات

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف