في وداع "غزة"/العقيد د.حسين أبو زيد

أحد, 10/30/2016 - 00:08

بعد فتـــرة مرت بنا من العمل في غزة ، صاحبتها ورافقتها الأحاسيس والحنيــــــن والشعور 
بالراحة النفسية والتي لازمتني طيلة فترة مكوثي في فلسطين / غزة ... غزة الرجال ، غزة 
العراقــــــــــــــة ، أودعك ورفـــاقي ياغـــــزة ...
أودعك كأردني حتى النخاع ، سكنتي جوف نخاعــه وأحاسيسه ومشاعره وكل كيانـــه .
لم أكن أتوقع حقيقـــة" ، أن أهل هذه المدينــــة الحزينــــة والمليئــة بالرجولة والصمود ، تكون 
بهذا الحجم من القوة ، والإرادة ، والكبرياء !.

هذا الشعب الشامخ والذي عانى الأمرين ، والذي يعمل بجد وإجتهاد ،أن يكون بهذا الحجم من 
الثقة بالنفس ، والإصرار ، والكرم والجود وحسن الضيافــــة ، والإيمان بقضيتــــه وعدالتـــها ،
وثقتــهم بأن الله سيغير الحال إلى أفضل ، وسيغير العقاب والحصار إلى نصر وزغاريـــــد ، 
وسيكون يوما" جدارهم الذي وضعوه حول إخوتنـــا في فلسطين هو جدار لحديقة حيوانــــــات 
شرسة ، كانوا هم يقطنــــــــون داخلـــه .

قلمــا دخلت بيتا ، لم أشاهد فيه أما" تبكي طفلها ، أو إبنها العريس ، أو بنتها ، أو زوجها ...
أو ان أشاهد شابا" في ريعان وجمال الشباب بلا ساق ، أو عين ، أو ساعد ...
لم أشاهد حارة" ، ولا مسجدا" ، ولا مدرسة" إلا وقصفت صواريخ العدو جدرانها ومآذنها وساحاتها ... 
لا غزة ... لا يوجد مثلك بالكون ...

تطفئ أنوار غـــزة ، لساعات طويلة ، ويبقى أطفالها ونسائها بلا أقـل أساسيات الحيــاة ، فتنيــر
لهم قناعاتهم ، وثقتهم بربهم ، وفقط بربهـــم أنه معهم ولن ينساهم ، وسيكون معهم لامحال ، 
حتى ولو تأخر القطار ، ويجدولون حياتهم بأساليب وطرق صعبة ، لا يقدر عليها سوى الأبطال . 
وفي المقابل ، ووسط كل هذا الالم والحرمان ، لم أشاهد شعبا" حقيقــة" عنـــده روح الفكاهـــة ، 
والمرح ، والنكتـــة مثلهم ، فتخرج البسمة من شفاه رجالها ونسائها وأطفالهـــا وسط دموع 
وحسرات والام عاشوها زمن طويل ، وتحت نظر القريب قبل البعيـــد ، دون جدوى ودون حتى
محاولة حراك ، وهذا ما يؤلمهم ، فأهل غزة ليسوا كبقيــة البشر، هم لا يجوعون ، لا يعطشون ، 
وتكسرت كل أمالهم بمن يحيط بهم ، إلا بفرج من الله عزة وجل ، وأمل من أخٍ يجــــــاورهم ، 
يبعد عنهم مرمى العصى ، عسى أن يفتح لهم نافــــــذة" فتحها ووضعها رب العبـــــاد ، قبل أن 
يغلقها جيرانهم بوجوهم ، ولهم أيضا" نقول : ان غزة لن تموت ، غزة لن تغرق في البحر ، 
كما تمناها وزير من أعداءهم ، غزة ستبقى ، وسيتحطم أمام سواعد رجالها هامات كل من عادى 
غزة .

فسكان غزة ، أراهم وكأنهم يرون أمام أعينهم شيئا" لا يراه الكون بأسره ، لا قريب ولا بعيـــد 
... يرون نصرا" قادم ، وفتحــــا" قريب ، وزلزالا" يحرق الظلم والظالمين بإذن الله تعالى .
لا غزة ... فأني لم أشاهد في بلد رجالا" كما تملكين ... فرجال غزة رجال يحق لنسائهم أن 
تفاخر بهم الدنيـــا ، ونسائها نساء ، وجب أن يخجل الكثير من أشباه الرجال النظر في أعينهن ،
لما قدمن من تضحيات على أرض فلسطين ، عجزت عنها شعوب ودول .
غـــزة الغاليـــــــــــة ...

فحال دخولي إلى أرضك ، ومنذ أن وطأت قدمي ترابك شعرت بكبرياء عظيم ، وفخر لن يشعر 
به من لم يدخل غزة ، وعرفت ياغـزة ،أننـــا مهما قدمنــــا لك سنبقى نشعر بالتقصيــر أمام 
صمودك ، شعرت يا غزة بمحبـــة أهلك الحقيقي لنـــا نحن كشعب أردني ، ومحبتهم وشكرهم 
للقيـــادة الهاشمية لما تقدمه لهم ولأبنائهم ، كنت أرى النساء ترفع أكفها إلى السماء تدعـــــو 
لشعب الأردن وملك الأردن حفظه الله ورعاه بكل الخيـــر ، ولا أتردد أن أقول أنني شعرت 
أيضا" بشوقـك لبقيــة الأخوة العرب أن يزوروكي ، كي ترفعي لهم هاماتهم عاليـــا " ، وكي 
تخبريهم أنك لست بحاجـــة لشيء منهم ، أكثر من أن تتبــــاهي بهم أمام عدوهم ك عرب 
أولا" ، لطالما تفاخر التاريخ بتأخيهـــم سابقا ... نعم ، هم بحاجـــة للعرب لكل العرب ، كي 
يخبروهم ويؤكدوا لهم أن عدوهم ليس بهذه القوة التي رسموها في خيال شعوبهم ، كـــــــي 
يؤكدوا لهم ، أن الحجر هزم المدفع ، وان ثقتهم بالله تسقط طائرات عدوهم ، وأن الحصار خلق 
جيلا" من الأبطال تخر أمامهم الجبال ، وأن قنابلهم هي ألعاب في أيــــــادي أطفالك يا غزة .... 
وأن الهزيمة هي كل ما يملكون أعدائهم في أخر المطاف ، وهم على يقين من ذلك أكثــر من 
كثير من أخوتهم العرب وللأسف .

غاليتي غــــــــــــزة ...
أم الخيرات ، والمزارع والمحررات ، ساحات النخيل ، والفاكهة ، والحمضيات والتي يستطيع 
أي عربي في كل أرجاء الوطن العربي أن يشتم رائحتــــها الزكيـــة وحتى من بعيـــد ، فقط لو
رفع أنفــــه قليلا " .

غزة ...
لكل أهلك سلام وتحيـــة ، قـدر تلك المحبـــة التي شعرنا بها نحن الأردنيين على أرضك ، قدر
تلك المحبــــة والدعاء التي كنت أسمعها من رجال ونساء غزة لجلالــة الملك لمواقفه 
ومساندتـــه لأهل فلسطين عامــــه ، ولسكان غزة خاصـــة ، فقد حفرت الأردن نفقــــــــــــا" 
فوق الأرض وأمام عيون الدنيـــا ، وأرسلت أبنائها منـــذ سنين طويلة ليقدمـــوا المساعدة 
والعون لأهل غزة هاشم ، غزة الشرفاء ، كي نخبـــر الدنيـــا ، كل الدنيـــا ، أننا مع قضايانـــا 
العربيــة عملا" وفعلا" ، لا قولا" .

فالأردن صغيـــر الحجم نعم ، ولكن أفعالــه لا يستطيع أحد أن يضاهيها ، حيث بقي ومنـــذ 
سنين طويلة جنبــك ، والمستشفى الأردني على أرضك ، والعاملين به ، والذين عاشوا معكي 
ضائقتـــك ، شاهدوا بأم أعينهم ومنـــذ بدء حصارك ، أحبوكي كما تحبيــــــهم .... فقد قصف 
مستشفاهم معك مثلك يا غزة ، وكان من بينهـم مصابين وجرحى مثلكي يا غــزة ، وعانوا 
مثلك ... وأصروا على البقاء معك وجنبك ، متمنيــن من إخوانهم العرب أن لا ينسوا غزة 
، ولا أهل غزة ، ولا شهداء غزة ، ولا نساء غزة ، ولا أطفـــــــــــــــــــــــــــــال غزة ...
وفي الوداع .... أطلب من الله العزيز ... أن يحفظ غزة ، وأهلها ، ليس من أجلهم فقط ، بل
من اجل أن تكون غــزة مدرسة" ، يسجل في صفوفهـــــا الإبتدائيــــة ألكثيــــر من الرجال 
الكبار من وطننــــا العربــــــــــي .

حفظ الله فلسطين ... كل فلسطين ، وفـك غزة وأهلهــــــــــا من هذا الحصار الجـــائر ، والذي لا 
يرضى عنـــــــه إنسان حمل معنى الإنسانيـــــــــــة في ضميره يوما من الأيـــام .
نودعـــك ... وفي العين دمعـــة فرح وأمــــل ، بأن الله لن ينساكي ، ولو تناسيناكي نحن ... وأن 
أشراف هذه الأمـــة يجب أن يقولوا كلمتهـــــــــم لو بعد حيـــن .

فسلام على أهلك ... غزة هاشم .

العقيد د. حسين أبو زيد

مدير المستشفى الأردني العسكري في غزة

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف