صراع البداوة والحضارة

اثنين, 11/13/2017 - 13:06
صراع البداوة والحضارة

يدق الوردي ومنذ بواكير قصية من خمسينيات القرن العشرين جرس الانذار الاول في سر الوباء الذي ينفذ الى جسد المجتمع العراقي كالسرطان ، وهذا ما يحدث الآن هناك حرب مستعرة بين سياقين مجتمعين وهما البداوة والعشائرية وزحفهما المخيف حول المدينة ليظهر على سطح الحياة العراقية الحالية صراعا اجتماعيا نفسيا ، افرز لنا قيادات سياسية وقطيعاً يطبل لها ساهم بشكل جدي في موت القيم المدنية والدستورية ليشيع نمط البداوة والعشائرية وما افرزته من نموذج مشوه وخديج لنظام سياسي لا هوية له ، فاشل اقتصاديا وعليل اجتماعيا تماما.
.....................
الازدواجية الشخصية
كما ان الوردي يغوص في تحليل وتشريح الشخصية العراقية في كتابه الفريد " شخصية الفرد العراقي " ليرى ان طبيعة الشخصية العراقية هي الاخرى تشكل عاملا مهما من عوامل سيادة الازدواجية فيرى الشخصية العراقية شخصية تحمل قيما متناقضة بين البداوة والحضارة، ولـجغرافية العراق أثر في تكوين الشخصية العراقية فهو بلد يسمح ببناء حضارة بسبب النهرين ولكن قربه من الصحراء العربية جعل منه عرضة لهجرات كبيرة وكثيرة عبر التاريخ آخرها قبل 250 سنة تقريباً.
فمن خلال النزوحات التي شهدها المجتمع العراقي البدوية- والريفية - يحصل محاولة الاندماج المجتمعي للوصول الى بوتقة متعددة تصهر الوافدين وتدمجهم في بسكان المدن ، ولكن الواقع يشير الى عدم التمازج بين القيم المدنية الحضرية والقيم البدوية؛ . ويرى الوردي أن التناقض ليس صفة عراقية صرفة بل هي موجود في كل نفس بشرية، ولكنها تكون طاغية في النفس العراقية ، أقوى وأوضح لأن قيم البداوة والزراعة قد إزدوجتا في العراق منذ أقدم العصور ويشير هنا "واني وان كنت غير واثق من نتيجة هذه الدراسة؛ ولكني أجد كثيراً من القرائن تؤيدني فيما أذهب اليه". ويذكر من هذه القرائن: "أن العراقي سامحه الله أكثر من غيره هياما بالمثل العليا ودعوة اليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته" و "أنه أقل الناس تمسكاً بالدين، وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى". وينبّه الوردي الى أن العراقي بهذه الصفات "ليس منافقاً أو مرائياً كما يحب البعض أن يسمه بذلك، بل هو في الواقع ذو شخصيتين، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى، فهو إذ يدعو الى المثل العليا أو المباديء السامية، مخلّص فيما يقول، جاد فيما يدّعي، أما اذا بدر منه بعدئذٍ عكس ذلك، فمردّه الى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فَعَلتْ"
...............
الوردي رائياً ومظلوماً
لقد عانى الوردي من ظلم مزدوج علميا وسياسيا ، فقد تعرض منهجه البحثي الى اعتراضات شتى ووصف بانه يستخدم الظواهر المجتمعية العامة والشخصيات الشعبية كنماذج لدرسه في علم الاجتماع وهو ما اجاب عنه شخصيا في لقاء تلفزيوني اجرته معه الاعلامية العراقية ابتسام عبد الله في الثمانينات قائلا ما مفاده " ان حقل علم الاجتماع هو الاماكن الشعبية والبسطاء وليس الصالونات والاماكن الرسمية " كما عانى الوردي من محنة سياسية كبرى في عهد الحرب العراقية – الايرانية وذلك بما ناله من تهميش مرير كما وصفها لنا في محاضرة عن الوردي الدكتور الاستاذ " ...." الموجود في سيدني حاليا ، لأن النظام الصدامي قد وصله خبر طروحات الوردي الاجتماعية فاحيل على التقاعد ومنع من دخول جامعة بغداد وغيرها من الاجراءات المشينة التي ساهمت بموته .
فضيلة علي الوردي انه كان رائيا باحثا موضوعيا نوه الى مشاكل موجودة بأفق تحليلي علمي ، لم يبلغ الكمال ولكن جهده التأسيسي العظيم كعالم اجتماع نادر قد افضى الى وضع العراق شخصا ومجتمعا أمام تلسكوب عالي الدقة لتأشير يحيل الى ان مسؤولية النتائج المجتمعية التي يعانيها العراقي ليست من صنع مؤامرة صهيونية امريكية !! وان اشير في وثائق ويلكلوليس اخيرا على دور الصهيونية والغرب في التفتيت المتعمد للمجتمع العراقي الى مكونات ثانوية واقصاء الهوية الوطنية ، وهذا صحيح تماما ولكنه ليس السبب المباشر وانما نتيجة واقعية لتعاون العراقي بشخصيته المزدوجة والمجتمع بتناقضه وصراعه بين نسقين لا يتواطنا في بيئة واحدة ، لنشوء قيم مشوهة ومعايير مزدوجة .
لقد كانت جهود الوردي تأسيسية وطنية وعلمية رصينة ، لو انها اخذت طريقها للطرح والمناقشة والاختلاف والالتقاء لنتج لنا درس مجتمعي متوازن ، يضع الظواهر تحت مشرط البحث الموضوعي ويشير الى نقاط القوة والضعف وسبل المعالجة .
الوردي بجرأته وعصاميته قد وضع المخطط العام لعلل الشخصية العراقية والمجتمع العراقي ودورهما في انتاج الظواهر الفوقية سياسيا ، وهذا ما حدث في عهد الدكتاتورية الصدامية وعهد ما بعد سقوطها ايضا، بتنوع اسباب المعالجة واستثمار الواقع العراقي.
لقد كان الوردي جراحا ماهرا للشخصية العراقية ،مات وبحوزته الكثير الكثير عن العراق مجتمعا وشخصية، لذا فان وجود طبقة سياسية ذات غطاء ديني تتحكم بمصائر الشعب العراقي الآن ماديا وتاريخيا ومعنويا ورمزيا وتستلب كل المعاني الحيّة وعناصر القدرة والابداع ما هو الا دليل ساطع على صدق فرضيات الوردي بوجود خلل بنيوي في المجتمع والشخصية العراقية معا، يؤهلها دوما لتكون حاضنة لانتاج الرموز الدكتاتورية مع اختلاف الأقنعة والمسميات.

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف