من أزمة 2007-2008 إلى الضربة الثلاثية:
بداية ًلا بدَّ أن ننأى بأنفسنا عن الأحداث التاريخية المختزلة والقوالب الجاهزة، وأن نقترب من الأحداث التاريخية المتنوعة التي إذا قارناها بحالنا اليوم كشفنا النقاب عن وجه المخطط الأمريكي والأوروبي تجاه العرب.
إن العالم له ملك، ولا بدَّ للملك أن يتحكم في ملكه ولا سيما إذا كان هذا الملك يهتزّ عرشه، فضلاً عن أن ممارساته في ملكه لا تكلّفه على أرض العروبة سوى الإشارة .هذا بالضبط حال أمريكا مع العرب، أمريكا التي أقامت دولتها من رحم السكان الأصليين "الهنود الحمر" أصحاب الأرض بعد أن انقضّوا عليهم واستأصلوا شأفتهم تقريباً، وها هي الآن تمارس نشاطها في الانقضاض على العرب إثْر أزمتهم المالية سنة 2007-2008 والتي تمثلتْ مظاهرها في ظهور مشكلة الائتمان والرهن العقاري، فتوحّشتْ، ولم تجد وسيلة أفضل من إثارة الشعوب العربية المهضومة على حكامها سنة 2011 حتى تستطيع أن تُحرز مكاسب جيوسياسية واقتصادية تضمد بها جراحها من أزمتها المالية.
وقد حصدوا الكثير، بيد أنهم ارتأوا أن مخططهم في سوريا يحتاج إلى حسمٍ صارمٍ بعد الانتصار المحسوم للأسد، ذاك لأنهم وجدوا أن زرعهم قد حصدته روسيا وإيران لِما لهم من سيطرة جغرافية وبشرية في كل أنحاء سوريا تقريباً، ومن أساليب حسمهم تلك الضربة الثلاثية على مواقع الأسد الكيماوية وهى أشبه بلعبة نارية، ولكن تحملُ في مضمونها جرس إنذار خطير إلى أسماع روسيا وإيران باستعداد الثلاثي وحلف الأطلسي كله بنشوب حرب نووية إذا ما فكّرتْ روسيا وإيران في الاستئثار بثروات سوريا،فضلاٌ عن تهديد المصالح الأوروبية والأمريكية عبر منافذ الخطوط الجغرافية الحيوية بها.
أسباب الضربة
ولم تكن أمريكا وحلفاؤها لتترك روسيا وإيران تحصدان غرْز أيديهم ولا سيما أن سوريا تتمتع بجغرافية حيوية لديهم.
فبدأوا بتنفيذ مخططهم الخبيث بطيران بريطاني لإلقاء الكيماوي بدرعا يوم 7 أبريل حتى يتّهموا بها بشّار ثُمّ ينقضّون عليه بعد أسبوع بضربة ثلاثية بأكثر من مائة صاروخ على مناطق يؤكّدون أن بها السلاح الكيماوي.
لن يُثنى أحدٌ أمريكا عن عزمهم في السيطرة على المناطق الحيوية بسوريا، ولابد أن يمسكوا بزمام الأمور فيها بالسلم أو الحرب أو حتى لو دعّموا المعارضة المسلحة من جديد مع توفير الدعم اللوجستي والمالي للجيش الحر والأكراد.
فسوريا بوابة ساحلية للقارة الأسيوية، وتقع على خطوط التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا وأفريقيا مع أمريكا.
وبعض الدول الغربية تريد السيطرة على سوريا من أجل مد خطوط الطاقة من الخليج العربي إلى أوروبا عبر سوريا لكسر حاجة أوروبا للغاز الروسي وإضعاف روسيا التي يخافون منها ولا تقف معهم في مخططاتهم الإمبريالية، وكذلك جعل الأراضي والمرافئ السورية ممراً لاستيراد وتصدير البضائع إلى دول الخليج العربي، علاوة على تموضع سوريا في شمال فلسطين، فيجعل منها هدفاً أساسيا لحركة الصهيونية العالمية.
تداعيات الضربة:
بعد الضربة بدأ الأطراف الثلاثة الفاعلة في سوريا "أمريكا-روسيا-إيران" في إعادة الحسابات من جديد، وهو ما أرادته أمريكا، حيث أفرزتْ الضربة اجتماعا لمجلس الأمن يوم الثلاثاء 17 يناير 2018 دعتْ إليه روسيا لتدين الضربة وتضع مقترحها لحل الأزمة سلمياً. أدانتْ فيه روسيا الضربة، ووضعتْ مقترحها لحل الأزمة السورية، لكن مشروع الإدانة لم ينجح علاوة عن عدم رضا مقترح السوفييت لحل الأزمة لأنه لا يصبّ في مصلحة أصحاب الضربة الثلاثية.
مما حدا بمندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا باتهام الثلاثي بإغراق العالم في أوهام الإنسانية إشارة منه إلى أنهم يريدون تفجير المنطقة بالحروب.
ولم تكن روسيا بالطبع أفضل حالاً من الأمريكان فتاريخهم حافل بالإرهاب والاستعمار، واللعبة مكشوفة وهي صراع على جغرافيات سوريا الحيوية ونهب ثرواتها.
وبالطبع رفْض الإدانة يُفسح المجال للمزيد من الضربات الحيوية،وقد تطال تلك الضربات المستقبلية المواقع الإيرانية والروسية إذا ما أصرّا على استمرار تمركزهم واحتلالهم، تلك الضربات التي تعبّر ليس فقط بحرب باردة بل بحرب نووية.
وفى إشارة أمريكية لحل الأزمة السورية طرحتْ مقترحاً يقضى بحكم الأسد ومسكه لزمام الأمور، وهذا الطرْح إشارة الى جلاء كل القوات الأجنبية منها.
وتقف روسيا حائرة بين ضربات محتملة أو الجلاء، فروسيا تعاني من عقوبات فرضتها عليها أمريكا في يناير الماضي بذريعة تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وخاصة الأزمة الأوكرانية وانتهاكات حقوق الإنسان، وربما كانت تريد رفع العقوبات بورقة ضغط الملف السوري وتمركزها في مناطق حيوية تهمّ أمريكا والغرب، والجلاء يفوّت عليها استخدام تلك الورقة.
ومن تداعيات الضربة انعقاد قمة ظهران بعدها مباشرة، والتي كان من المعروف نتائجها مسبقاً، لأن طبيعة حكّامنا فقط الشجب والاستنكار. لكن لابد من انعقادها حتى تتجنب الحكام العرب موجة ثورية محتملة من الشعوب التي تعتبر هذا الثلاثي كافر ويعتدى على بلد مسلم، كما ان انعقادها ليس إلا ذرّاً للرماد في العيون من تهويش الثلاثي بِشِعار.. "حالنا الانعقاد إذا ما اعتديتم علينا".
خُطّة جديدة
في مكيدة جديدة بعد ضربة ترمب الثلاثية تحاول أمريكا أن تحصل على ما تريد دون أن يتسخ ثيابها، ففرض العقوبات على روسيا وتوريط الجيوش العربية لتحل محلها بعد انسحابها يحقق لها مأربها.
يحاول ترمب جر الحلفاء الاستراتيجيين له في المنطقة العربية إنابة عن الجيش الأمريكي الذي يودّ انسحابه.
بالطبع هو يحاول أن يُجنّب سفك الدمّ الأمريكي على حساب الدمّ العربي، وتجنّب الإنفاق المالي على حساب الإنفاق العربي، وكل هذا من أجل تتويج هذه الدول أو بعضها بمنحها درجة حليف رئيس خارج الناتو. ولا يريد أن يغامر بحرب مع دولة تملك أكبر قنبلة هيدروجينية في العالم، فهو يريد سوريا ولكن بلا خسائر.
ولعل ترمب تناسي أن هذه القوات العربية قد ينضم بعضها إلى المعارضة المسلحة المنهزمة بحكم وحدة الديانة أو الجنس، فتتحد معاً، مما يسبب تدجج المنطقة بالتيار الإسلامي الذى يكون وما زال من أولويات أمريكا الخلاص منه، لأنه يضرب مصالحها بقوة، فيتفاقم الأمر أكثر، وتشتعل المنطقة أكثر، فتضطر إلى العودة من جديد وإعادة الكَرّة لمحاربة هذا التنظيم. الحقيقة الوحيدة التي لا خلاف عليها أن ترمب لن يترك سوريا لروسيا وإيران، أيّاً كان الثمن حتى لو دارتْ حرب نووية قاتلة بين أحلافه وأحلاف روسيا.
بعض الحلول:
اعتراف بقايا المعارضة المسلحة بفوز الأسد الكاسح للجلوس على طاولة المفاوضات، وتسليمه مقاليد الحكم كلها، ووضع حدود نهائية للنزاع، وذلك لإجبار المجتمع الدولي على فرضية خروج القوات الأجنبية كلها من المنطقة. وعلى تركيا الكفّ عن دعم المعارضة السورية وإقامة علاقات حميمة مع الأسد. ووضع الانفصاليين الأكراد تحت الحكم المركزي السوري ورفع أيدي أمريكا من دعمهم اللوجستي والمادي الذي يثير العداء مع الاسد وأردوغان. إنّ ما أوقع سوريا في هذه الكوارث إلا الفرقة والتشرذم الذي كُتب علينا بسبب حرص الحكام العرب على العروش. فأمريكا دأبتْ على بث بذور الفتنة منذ القدم بين الدول جمعاء ولاسيما العربية منها، مستخدمة في ذلك قوتها المخيفة في تركيع حكام الدول ولاسيما العرب منهم، لتنفيذ أجندتها الخاصة، وقنبلتي نجازاكي وهيروشيما 1945 وشنق صدام حسين ليس ببعيد. كذلك مسلسل الانقلابات الذى يتبعونه في بلادنا علاوة على ضلوعها المشبوه في مساعدة الموساد الإسرائيلي في تصفية علماء الذرة العرب.
ولا سبيل لخلاص سوريا وسائر الدول العربية والإسلامية إلا التحصّن بالعلم، والقوّة بالوحدة العربية، فالعلم تُحصد ثماره بصنع القنبلة الهيدروجينية، والوحدة تحصد ثمارها بالمجابهة إذا ما أرادتْ أمريكا فرض العقوبات والحصار بشتى أنواعه من خلال الأمم المتحدة على الدول المالكة للنووي.
*********
إبراهيم امين مؤمن
محلل سياسي -روائى