بصدور قرار المجلس الاعلى للقضاء بشأن انتخابات ممثلي القضاة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بتاريخ 19 ماي 2016، و الذي حدد الجدولة الزمنية لهذه الاستحقاقات الانتخابية تتويجا لتنزيل مقتضيات دستور 2011 الذي ارتقى بالقضاء إلى سلطة مستقلة و تلته نصوص تنظيمية جديدة لأول مرة في تاريخ القضاء - حملت تطلعات جميع القضاة للرقي بالمهنة لواقع أفضل، و آمال شريحة كبيرة من المواطنين في قضاء نزيه و عادل و مستقل في خدمة المواطن و العدالة ببلادنا، واستجابة للإرادة الملكية السامية التي أولت عنايتها الخاصة لإصلاح منظومة العدالة - بدأ العد العكسي لموعد تاريخي يصنع حدثه كل قاض بأمانة اختياره لممثليه في وقفة مع الذات يحكمها الضمير بثقة و إرادة حرة.
بيد أن نجاح هذه المحطة مرهون بيد القضاة أنفسهم ، و مدعوون جميعا للمساهمة البناءة فيه، و التفاعل الإيجابي مع متطلبات المرحلة، بإيمان راسخ بأن كل واحد منهم يحمل التغيير الذي يريد أن يراه في الواقع، تماشيا مع الحمولة الإيجابية التي أتت بها القوانين ، و التي حملت نفسها تغييرا موازاة بالأدوار الجديدة للسلطة القضائية ، و أن المساهمة في هذا التغيير تتطلب وعيا جديدا بأهمية المرحلة النابعة من التأمل و الارادة و الشعور بالمسؤولية ، ذلك أن المجلس الاعلى للسلطة القضائية في إطار الظهير الشريف ل 24 مارس 2016 بتنفيد القانون التنظيمي 100.13، ليس هو المجلس الاعلى للقضاء المنظم بمقتضى الظهير الشريف الصادر في 15 يوليوز 1974 ، كما أن هذه المرحلة لا تقل أهمية عن المرحلة التي سبقتها من إخراج القوانين التنظيمية المرتبطة بالمجلس الاعلى للسلطة القضائية و النظام الأساسي للقضاة، إن لم تكن أكثر أهمية منها، فإذا كانت الفترة التي صاحبت نقاش إعداد مشاريع هذه القوانين، اتسمت بحراك شمولي ساهمت فيه جميع مكونات منظومة العدالة وجمعيات مهنية للقضاة ، وكذا السلطة التنفيذية و التشريعية، فإن المرحلة الآنية هي بيد مكونات السلطة القضائية فقط، و نابعة من إرادة القضاة الذين هم مطالبون اليوم و أكثر من أي وقت مضى بإنجاح هذه المحطة المفصلية، و مدعوة للمشاركة فيها أيضا الجمعيات المهنية من وجهة الإسهام الايجابي بالتحسيس ، و نشر الوعي بأهمية هذه المحطة القضائية في إطار أخلاقيات المهنة نحو ممارسة مسؤولة لحق اختيار ممثلي القضاة. و السؤال المطروح هنا هو هل نحن على استعداد لهذه المرحلة بنفس الارادة التي كانت تواقة لقوانين السلطة القضائية؟ و هل القضاة على قدر المسؤولية لتحديد اختيار يرهن مستقبل السلطة القضائية للسنوات الخمس المقبلة؟
إن الاجابة عن جانب كبير من هذه التساؤلات تكمن في الصفات التي يتحلى بها القاضي، فمما لاشك فيه أن وظيفة القاضي هي من أهم المناصب و أسماها ، و أرفع المراتب و أعلاها ، لما لها من دور فعال في إرساء العدالة و فض المنازعات بين الناس و توفير الأمن و الطمأنينة لهم و صون حرياتهم و حماية أعراضهم و الحفاظ على ممتلكاتهم. من أجل ذلك ترسّخ الاجماع كونيا على الكثير من الآداب و القيم و الاعراف التي يجب أن تحكم سلوك القاضي، الامر الذي يتوجب معه على القضاة فرادى و جمعيات مهنية احترام و تشريف الوظيفة القضائية، و العمل على الرقي بها و صيانتها، و الحرص على ثقة المجتمع فيها، فحينما نتحدث عن القاضي نستحضر استقلاله كمبدأ ذات أولوية للمشروعية و الضمانة الأساسية للمحاكمة العادلة، و هذا المبدأ لم يشرع للقضاة و إنما شرّع من أجل حسن سير العدالة، و استقلاله هو ضد أي تاثير خارجي إزاء المجتمع بصفة خاصة ، و إزاء الافراد المتنازعة بصفة خاصة، و إزاء زملائه مع الحفاظ على قواعد التجرد و الحياد، كما نتحدث عن النزاهة كمبدأ أساسي أيضا ليس لاتخاد القرار القضائي فقط بل حتى الإجراءات المؤدية لهذا القرار ، فضلا عن الاستقامة لضرورة تحقيق العدالة تجنبا للّوم و التجريح في سلوكه و كل ما يمس هيية القاضي لأن القاضي في تصرفه و سلوكه يكرس ثقة الناس في استقامة و نزاهة الجهاز القضائي مع حرص القاضي عند ممارسته لمهامه و أنشطته على قواعد اللياقة باجتناب ما هو غير لائق ظاهريا وواقعيا، و ضمان المساواة و تجنب الظهور بمظهر الانحياز و المحاباة ، يزكي كل ذلك الكفاءة و العناية للممارسة السليمة للمهمة القضائية.
إن القاضي بما يتحلى به من الصفات التي سبق ذكرها، هو على قدر المسؤولية لتمثيل زملائه بالمجلس الاعلى للسلطة القضائية، و على قدر الوعي لتحديد اختيار من سيقوم بتمثيله فيه، و الذي يستوجب معه استحضار بأمانة أن على ممثليه حسن تدبير وضعيته المهنية و احترام المعايير المتعلقة بها، و حماية استقلاله ووضع التقارير و إصدار التوصيات.
غير أن الواقع لا يرتفع عن العديد من الممارسات الفردية التي تسعى إلى الانفراد بالمشهد في هذه الاستحقاقات الانتخابية و استعمال كافة الوسائل لتحقيق تلك الغاية، ممن كانت لهم نوايا الترشح لتمثيل القضاة، فطفت على السطح ظاهرة تنظيم موائد رمضانية، قبل انطلاق الوقت المحدد لتعريف المرشحين بأنفسهم لدى الهيئة الناخبة ابتداء من 4 يوليوز 2016، في بعض المناطق، كالمأدبة التي أقيمت الأسبوع المنصرم بطنجة من طرف عضو بالمجلس الأعلى للقضاء لفائدة مسؤولين قضائيين و حوالي ثلاثمائة قاض، هذه الظاهرة التي لم تكن تعرفها السنوات السابقة، مع تساؤل عن مصدر تمويل هذه المأدبات و هذا الكرم الفجائي، والتي لقيت ردود أفعال سلبية من طرف القضاة لمخالفة ذلك مقتضيات المادة 11 من قانون المجلس الاعلى للسلطة القضائية التي تنص على أنه :" يمنع على أعضاء المجلس ، اتخاد أي موقف أو القيام بأي عمل يمكن أن ينال من تجردهم او استقلالية المجلس ... يمنع عليهم أيضا استعمال صفاتهم كأعضاء بالمجلس لأي غرض من الاغراض ذات الطابع الشخصي..." و المادة 103 التي جعلت من اختصاصات المجلس " ضمان احترام القيم القضائية و التشبت بها ، وإشاعة ثقافة النزاهة و التخليق بما يعزز استقلال القضاء " و ماجاء به قرار المجلس الاعلى للقضاء الصدر بتاريخ 19/05/2016 تحت عدد 647/5/ك م ا ق خصوصا حول تحديد بداية الفترة التي يعرف خلالها المترشحون بأنفسهم لدي الهيئة الناخبة انطلاقا من 4 يوليوز، على أن جلّ القضاة الذين حضروا المأدبة وجدوا حرجا في عدم تلبية الدعوة للافطار، مأكدين أنهم مقدّرين لأمانة اختيار ممثليهم، و أن وعيهم أكبر من مجرد محاولة استمالتهم بتقديم المأدبات. و كان الهدف من تقديم طلب للمعاينة دون تنفيده، هو لفت الانتباه إلى أن القاضي أكثر وعيا و أرقى مكانة و أرفع منزلة من استمالته بتنظيم الولائم، و غيرة على القطاع و دعوة لتخليق الممارسة القضائية في هذه المناسبة الفارقة.
وتعليقا على الامر، ذهب العديد من القضاة الى القول بأن الاستجابة إلى طلب استصدار أمر بالمعاينة و الاكتفاء به دون تنفيده في محاولة لتوجيه رسالة الى السادة القضاة، هو في حد ذاته تاكيد على وعي بأهمية المرحلة، في دولة الحق و المؤسسات و الثقة في القضاء بما عهد فيه من صون للحقوق و تحقيق للعدالة، فضلا عن وجوب احترام مبدأ المساواة و تكافؤ الفرص. و أشار آخرون ردا على قلّة ممن تحفظوا على الامر ، متسائلين في نفس الوقت الى أنه عوض البحث عن سوء تأويل الممارسة المسؤولة لحق التقاضي ، لماذا لم يتم الحديث عن الوداديات السكنية التي دفع القضاة قسطا هاما من أموالهم لها، و كان الهدف منها بداية إنشاء وحدات سكنية بأثمان تفضيلية قبل أن تتعثر و تصبح مقاولة للمضاربة بالربح ، و توقفت الاشغال بها منذ أزيد من خمس سنوات ، كما هو الامر بالنسبة لمشروع أشقار بطنجة، و مراكش، وسيدي رحال بالدارالبيضاء، دون وجود مؤشرات على انفراج الوضع في ظل غليان القضاة يؤشر على انفجار وشيك.
وهناك أخبار تتداول حول لجوء بعض المرشحين الى أخد العهد من القضاة بيمينهم على التصويت بصوت واحد لهم فقط، رغم وجود تنسيقات مسبقة مع مرشحين آخرين، و الدعوة إلى عدم التصويت على باقي المرشحين و ترويج إشاعات تمس سمعتهم، ووعود بالمسؤولية و الاستجابة لطلبات الانتقال رغم أن ذلك مرتبط بمعايير محددة سلفا. فضلا عن وعود أخرى لقضاة ببقائهم في شعب معيّنة عمّروا فيها طيلة السنوات المنصرمة و التلويح بجمعيات عمومية استثنائية في هذا الظرف.
خلاصة القول، فإنه كيف ما كانت رهانات هذه المرحلة و تحدياتها والسباق نحو المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإن المفاجآت واردة و العبرة بخواتمها و الانتخابات في جميع الاحوال ستفرز تشكيلة جديدة يختارها السادة القضاة ، سيكون عليها تدبير الوضعية المهنية للقضاة و القيام بأدوار جديدة، و أنه على الجمعيات المهنية تقوية نفسها وتوحيد خطها و اعادة تنظيم هيكلتها، استعدادا للمشاركة في المرحلة المقبلة دفاعا عن القضاة من أجل سلطة قضائية قوية كما أراد لها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله أن تكون:
"وقد حرصنا على تتويج هذا المسار الإصلاحي بمقتضيات الدستور الجديد للمملكة التي تنص على ضمان الملك لاستقلال القضاء وتكرس القضاء كسلطة مستقلة قائمة الذات عن السلطتين التشريعية والتنفيذية٬ وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية برئاستنا وبالنص على حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة ودور القضاء في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم.
تلكم هي المرجعيات الأساسية لهذا الحوار الوطني الذي نريده مناسبة لتأكيد تشبث المغاربة بالنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز".
من نص الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك خلال حفل تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة يوم الاربعاء 20 مارس 2013.
والاكيد أن الفائز هو المسار التنموي الديمقراطي ببلادنا الذي شمل أوراشا كبرى في إطار دولة الحق و المؤسسات وسيادة القانون تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده.
نوفل ابن عجيبة ( عضو رابطة قضاة المغرب )