عبْرَ التعليم نحن نصنع صورتنا الثقافية والمجتمعية؛ لذلك علينا صياغة سياستنا التربوية ورؤيتنا ورسالتنا وأهداف تعليمنا وفقا للصورة النهائية التي يريدها المجتمع ويفرضها التحول العالمي.
من الأسئلة المهمة التي يجب أن نتذكرها جيداً عند الحديث عن التعليم في المجتمع: من الذي يمثل القوة في النظام التعليمي في المجتمع ؟، هذا السؤال يبدو منطقياً من أجل البحث عن الحقيقة في التعليم لدينا، ولماذا هذا التعليم وعبر عقود من الزمان ينتصر على الكثير من العمليات الإصلاحية، كل المشروعات الإصلاحية الكبرى التي قدمت للتعليم ورصد لها ملايين من الدولارات تتحول وبشكل دراماتيكي إلى مشروعات مغلقة ينحصر أداؤها في زوايا لا تعكس حجم الأموال التي رصدت لها وهذا بحد ذاته يثير أسئلة كبرى حول فاعلية مشروعات التطوير وهل فعلاً ما ينقصنا هو التطوير أم شيء أبعد من ذلك؟.
التعليم في العالم لم يعد ذلك الحصان المحلي الذي نحتفظ به في مجتمعنا تدريباً وتأهيلاً، التعليم في هذا القرن أصبح فرساً تنموياً يقود المنافسة العالمية، فهل لدينا تعليم يمكن أن ننافس به عالمياً ؟، هذا السؤال مهم جداً مع إدراكي التام أن تحديات إصلاح التعليم كبيرة ولكنها ممكنة بشرط البدء من النقطة الصحيحة، بعد عشر سنوات من الآن سيكون معدل الأعمار في المجتمع ثلاثين عاماً بمعنى أن نصف المجتمع سيكون عمره ثلاثين عاماً وبهذه النسبة سوف تكون مؤسسات التعليم لدينا مسئولة عن نصف المجتمع تحديداً.
في العام (2026م) أي بعد ست سنوات من الآن من المتوقع أن يكون عدد الطلاب في التعليم العام والتعليم العالي ما يقارب (12,5) مليوناً تقريبا، تسعة ملايين منهم سيكونون في التعليم العام، هذا الرقم سوف يزحف إلينا خلال ست سنوات قادمة وسوف يكون التحدي كبيراً جداً، لذلك علينا أن نبحث أي نقطة يجب أن نقف من أجل استقبال هذا الكم الهائل من البشر هل لدينا الفرصة فعلياً لتحديد هذه النقطة التي يجب أن نذهب إليها وما هي الطريقة.
هل سيكون التعليم وبهذا الحجم من الطلاب من الجنسين قادراً على المنافسة عالمياً، الجواب لا يبدو سهلاً فالمنافسة العالمية في مجال التعليم تغيرت مفاهيمها وتحدياتها بشكل كبير، هذا بالإضافة إلى انه علينا أن نحدد من يجب أن ننافسه من دول العالم ولماذا؟ وهذا السؤال يحدد أي عقلية نحن نفكر فيها وأي طموح يختلج في ذاتنا المجتمعية.
المجتمع مسئول عن المستقبل ومشروع التحول الاقتصادي الذي تتبناه الحكومة يدفع بهذا الاتجاه ولكن التعليم يبقى هو التحدي الأكبر في صناعة جيل المستقبل، التعليم يا مجتمعي ويا قياداته التربوية والاقتصادية والثقافية والسياسية، سيكون مسئولا خلال العقدين القادمين عن نوعية المنتج الإنساني الذي نريد، أي فرد نرغب في رؤيته بعد عقدين من الزمان هذا ما سيحدده النظام التربوي لدينا، فعبر التعليم نحن نصنع صورتنا الثقافية والمجتمعية لذلك علينا صياغة سياستنا التربوية ورؤيتنا ورسالتنا وأهداف تعليمنا وفقا للصورة النهائية التي يريدها المجتمع ويفرضها التحول العالمي.
هذه الصورة الواضحة عن مستقبل تعليمنا هي ما يجب أن نفكر ونبحث عنها وخاصة إجابة السؤال الذي ورد في مقدمة هذا المقال (من الذي يمثل القوة في النظام التعليمي في المجتمع ؟)، لدينا ارتباك وتنافس ثقافي في تعريف وتحديد أيديولوجيا التعليم لدينا، ولذلك أصبح لدينا أزمة كبرى خلال الأربعة عقود الماضية في تحديد ما هو البناء التنظيمي الذي يمكن أن يساهم في إصلاح التعليم لدينا، وهذا التحدي خلق لنا ما هي الأيديولوجية المناسبة التي يجب أن نتبناها ونظرياتها لكي نحقق الإصلاح المطلوب، فمثلاً بالمقارنة مع النظام الاقتصادي فإن الأيديولوجية المعتمدة اجتماعياً للنظام الاقتصادي هو الاقتصاد المحتكر المعتمد على الرأسمالية وهكذا هو معروف ومعرّف مجتمعياً فهل لدى نظامنا التربوي تعريف مماثل.
القوة والأيديولوجي في التعليم في أي مجتمع هي من يحدد وجهته، وهنا يجب أن أوضح أن ما أقصده هنا ليس الأدلجة بمفهومها التطبيقي، وإنما أقصد أي أيديولوجيا فكرية يمكن أن نستخدمها بهدف إصلاح التعليم؟ إذا كنا فعلياً نرغب في نظام تعليمي منافس دولياً ومحلياً، هذه بكل وضوح أزمة التعليم لدينا، وهذا ما يفسر الإخفاقات المتتالية في مشروعات تطوير التعليم التي تتحول إلى صور كمالية ساهمت في تضخم الجهاز التربوي لدينا بيروقراطياً فأصبح نظامنا التربوي مليئاً بالمبادرات المتراكمة غير الفعالة.
نظام التعليم لدينا لازال يفتقد كثيراً لنظام محكم في إجراءات العمل ويعاني من المركزية والتعقد البيروقراطي لذلك ظلت فكرة التعميم: مصطلح يفهمه منسوبي التعليم سائدة وأساسية مع كل هذا الحجم من المبادرات ومشروعات التطوير، ولعل واحدة من المبادرات التي أعتبرها عبئاً على التعليم تلك المبادرات الخاصة بالمواهب والموهبة وهي فلسفة ابتلى التعليم بها وشكلت واحدة من أزماته التي سوف تظل عبئاً إلى أن يتم التخلص منها مستقبلاً.
إصلاح التعليم ليس عملية بنائية فقط ولكنها عملية فكرية وثقافية يجب أن تراعي المتطلبات الدولية للعملية التعليمية وإلا سوف يكون المنتج التربوي غير صالح للتنافس الدولي، وهذا ما يحتم بناء فلسفة تربوية واضحة في أيديولوجيتها والأسس التي يجب أن تذهب لتحقيقها من خلال سياسة تعليمية قادرة على رسم صورة مستقلة لنظام تربوي يمكن التنبؤ بمنتجاته المستقبلية.
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي