لكل منا وطن جميل رسمه في مخيلته, ورغم أن حقيقته مليئة بتناقضات كثيرة ومبهمة، بعضها عبارة عن مقدسات وعادات لأناس يشاركونا ذات الوطن.. هذه الحدود التي ننتمي إليها، تحكمها قيود دينية وقدسية وأخرى مجتمعية، ولكن مهما قست أوطاننا الحقيقية, فهي تبقى الملاذ الأول والأخير لنا، حتى ولو كانت مميتة.
كل الأوطان عبارة عن خليط من مجتمعات وأقليات، تأطر ضمن منظومة أخلاقية، تتفاوت شدتها من مجتمع إلى آخر.
المنظومة الأخلاقية دائما تسبق القانون الوضعي، لأنها تنبع من نفوس الأفراد, لذلك حرية الرأي والتعبير، يجب أن لا تخرج عن إطار السياق الأخلاقي والعرف الإجتماعي لأي مجتمع، ليبراليا كان أو ديمقراطيا أو حتى دكتاتوريا.
من يخالف هذه المنظومة، ويعمل على خدش المقدسات و الرموز المحترمة في أي مجتمع، لن نستغرب أن يعاقب ، لأن المساس بمقدسات الآخرين، هو بحد ذاته أنتهاك لحقوق الإنسان، فمن الأولى إحترام الغالبية المكونة للمجتمع.
الحروب العسكرية لإنتهاك حرمة الأوطان وسيلة إنقرضت بنهاية الحرب العالمية الثانية، وأنتقلنا إلى لما يسمى بالحرب الناعمة.. التي تستهدف دائما المنظومة الأخلاقية للمجتمع, فتعمل على تفكيكها، لينقسم المجتمع بين مقدس ومتحرر، وأهم مصاديق هذه الحرب، نشر الموبقات والمخدرات، وحاضنتها الأهم المقاهي.. حيث الملتقى الأكبر للشباب، بسبب تفشي البطالة، ولا ننسى "دعارة" الإعلام والفضائيات، التي يكون تأثيرها غير مباشر على الشباب.
الآفة الحقيقة التي تنشر مثل هذه الأفكار، التي تعمل على هدم أخلاقيات المجتمع، هم صنف أو جزء ممن يسمون أنفسهم "ناشطي المجتمع المدني" .. فقد سربت وكالة أخبار العراق، أن سفارة دولة عظمى جندت إثنين وسبعين ناشطا مدنيا، لبث الشائعات وهدم المعتقدات، وصولا لزعزعة النسيج الإجتماعي للعراق.
ما قام به أحد الشباب في مدينة مقدسة, من شتم الأمام الكاظم في ذكرى شهادته ونطقه بالكفر، أثار ضجة كبيرة في المجتمع, مما أخرجت مسيرات كبيرة إحتجاجا على سكوت الحكومة، وللمطالبة بإنزال أقسى العقوبات، بحق كل من يسيء للمقدسات والرموز الإسلامية.
بما أن لكل فعل ردة فعل، وكما تكلمنا أن هناك مندسين يحاولون إثارة البلبة، ظهرت فئة "تدعي المدنية" لم تتكلم بشأن ما قام به هذا الشاب من إنتهاك لقدسية محافظتهم، وإنما حرفوا الأمور لمنحى آخر، يتعلق بتردي الخدمات وأرتفاع نسبة الفساد في المجتمع، ومن هذا انطلقوا ليكملوا بأن الشاب يجب أن لا يعاقب لأنه تكلم ضمن مبدأ حرية الرأي والتعبير.. عجبا! هل تناسى هؤلاء أن هذا المبدأ يكفل إحترام حقوق الآخرين، وإن القانون الأخلاقي فوق القانون الوضعي؟!
ما يحدث اليوم من تضاد وتصادم، بين أبناء الجلدة الواحدة، من مطالب بقدسية وآخر مندد لها، ما هي إلا أفكار مزروعة في عقول أساسها هش، والأفكار لا تحارب سوى بالأفكار، فالحرب الناعمة أشدُ فتكاً.
محمد جواد الميالي