حادثتان جعلت العالم يحبس أنفاسه فاغرًا فاه ويديه تحك فروة رأسه، تنبش بين شعر الرأس علها تجد تفسيرًا أو تجترح حلاً.
الأول تعرض أربع ناقلات نفط لعمل "تخريبي" أمام سواحل إمارة الفجيرة. لم يحدث تسريب للنفط واضرار بيئية، فقد كانت الناقلات فارغة. لم يحدث حالات وفيات، فقد تمت العملية بدقة متناهية لتفادي الأضرار البشرية. لم تهتز أسواق المال فقد حصلت العملية في يوم أحد حيث البورصات العالمية مقفلة وفي إجازة. علها كانت رسالة. لكن من مرسلها؟ وما فحوى الرسالة؟
لم تمضي إلا ثلاثة اسابيع حتى حدث الحادثة الثانية حيث انفجرت ناقلتا نفط محملتين إحداهما بالنفط الخام والأخرى بالمكرر، في خليج عُمان، وليس بعيد عن مكان الحادث السابق وقريب من الشواطئ الايرانية. هذه المرة كان الحدث اكثر اثارة مقارنة بما سبقه. كادت ان تغرق احدى الناقلتين مع بحارتها مسببة كارثة بيئية وأضرار بشرية. كما سببت بارتفاع أسعار النفط تجاور 4%.
لو وقعت هذه الحوادث والأحداث في زمان غير هذه الأيام أو مكان غير هذا المكان لعبرت دون تعليقات، وكان الخبر سيأتي في الزويا المهمله للصحف أو في ثنايا نشرات الأخبار دون استضافات مُكلفة عبر الأقمار الاصطناعية لخبراء عسكريين وسياسيين يتقاضون أجرهم بالدقيقة.
ما أعطى هذه الأحداث هذا القدر من الأهمية، هو أنها حدثت في زمن يزداد فيه التوتر بين إيران من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها في المنطقة المتمثلين بالكيان الصهيوني والمملكة السعودية و دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد أرسلت الولايات المتحدة أكبر حاملات طائراتها، ابرهام لونكلن، وقاذفاتها الاستراتيجية، B52، واتفقت مع الدول الخليجية على إعادة انتشار للقوات الأمريكية على الخارطة الخليجية. وذلك تمهيداً فيما يبدو لعمل عسكري موسع أو موضعي ضد إيران، التي لم تستجب للضغوطات الاقتصادية والسياسية الأمريكية المفروضة عليها، من أجل تقديم تنازلات إيرانية في برنامجها النووي والتسليحي ودورها الإقليمي. وهذه المطالب هي مطالب إسرائيلية بالمقام الأول والأخير.
لم تعلن اي جهة مسؤوليتها عن هذه الحوادث. لكن الولايات المتحدة والدائرين في فلكها يشيرون بأصابع الاتهام بإتجاه إيران، في اطار خلق الذرائع للهجوم عليها، مستغلين تهديدها بأنها ستغلق مضيق هرمز إذا لم تستطيع تصدير أو تمرير نفطها عبره بسبب العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة، أو إذا تعرضت ناقلات نفطها لأي اعتداء عسكري وهي في طريقها إلى زبائنها كما هدد بذلك مسؤلون في الكيان الصهيوني.
إيران تنفي تلك الاتهامات. وقد صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني أن أمن مضيق هرمز مسؤولية ايرانية، وذلك يوم امس في قمة منظمة شنغهاي. كما شاركت البحرية الايرانية في تأمين حياة 44 بحاراً كانوا على متن الناقلتين التي اشتعلت فيهما النيران.
لكن السعي الحثيث لإشعال فتيل الحرب في المنطقة لم يتوقف، وهو ما يدفع بعدد من المراقبين إلى توجيه أصابع الاتهام نحو معسكر الحرب الذي يتزعمه الكيان الصهيوني وعدد من المتطرفين الانجيليين في الإدارة الأمريكية مثل وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون.
فالحادث الأول أي العمل الموصوف بالتخريبي الذي تعرضت له السفن الاربعة جاء بعد تراجع حدة التصريحات الأمريكية وخصوصا من قبل ترامب وإبلاغه القيادة العسكرية بأنه لا يريد حرباً مع إيران. وأنه لا يسعى إلى تغيير النظام الإيراني.
كما ان هذه العملية لم تعطي ثمارها. في ظل انقسام دولي وعدم ثبوت تورط ايران في هذا العمل "التخريبي"، فكان لابد من عمل أكثر إثارة للرأي العام والرسمي الدولي ويسبب ضغطاً أكبر على صانع القرار الأمريكي. فكانت عملية تفجير الناقلتين في خليج عُمان. ومنذ اللحظات الأولى، نقلت وكالات الأخبار أن الهجوم كان بواسطة طوربيد وهو ما تستخدمه القوات العسكرية البحرية لاغراق السفن والغواصات في حال الحروب. ولم تتأخر التصريحات كثيراً، بل وسبقت نتائج أي تحقيق لتحميل المسؤولية عن الهجوم إيران. وينشر الجانب الأمريكي فيديو يظهر فيه زورقا نسبه إلى إيران وهو ينزع لغماً ملتصقا بإحدى الناقلات المتضررة.
كانت إحدى الناقلتين متجهة إلى اليابان، التي يزور رئيس وزرائها ، شنزو آبي، ايران متوسطا بين ايران والولايات المتحدة ومحاولا لتخفيف التوتر في المنطقة الذي إن تصاعد الى حرب فلن يسلم منه الاقتصاد الياباني بسبب إرتفاع أسعار النفط الذي تعتبر اليابان من المستخدمين الرئيسيين له، و حاملا رسالة من الرئيس الأمريكي للقيادة الايرانية. كما لا يفوتنا أن اليابان ستستضيف قمة العشرين بعد أسابيع قليلة.
نرى بوادر لتحشيد دولي ضد إيران. وتأتي محاولة إبراز أدلة تورط إيران في ما يجري وذلك عبر نشر فيديو الزورق الذي ينزع اللغم من جسد إحدى السفن ضمن إطار محاولة هذا التحشيد. ويذكرنا هذا الفيديو بالمسرحية التي كان بطلها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول على مسرح مجلس الأمن الدولي وهو يعرض نموذج من أسلحة الدمار الشامل العراقية قبل غزو العراق في العام 2003. والتي ثبت كذبه لكن بعد تدمير بغداد الرشيد وكل العراق وارتكاب كل صنوف الجرائم بحق الشعب العراقي ونهب خيراته.
كيف نصدق هذه الادعاءات وقد صرح مايك بومبيو أنه عندما كان على رأس وكالة الاستخبارات الامريكية قد مارس الكذب الابتزاز. كما ان الصحف الأمريكية قد احصت أكثر من 250 كذبة للرئيس الأمريكي منذ توليه مهام الرئاسة.
لعل هذه الحقائق عن الممارسات المفضوحة للإدارة الامريكية في تلفيق الأدلة لتنفيذ مخططاتها، هي ما دفعت الكويت لعدم تصديق أن ذلك الزورق الذي ضهر في الفيديو الذي نشرته وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) يمكن ان يكون تابع للبحرية الإيرانية. كما ان المسؤولين في دولة الإمارات يتعاملون في التصريحات بشأن هذه الأحداث بحذر شديد وواضح.
في الختام، بقي أن ننبه إلى الدور الإسرائيلي في الأحداث. فهي من تسعى لإشعال الحرب بين الولايات المتحدة وإيران. فقد عملت على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بين إيران والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي واقره مجلس الأمن ليكون اتفاقية دولية.
والكيان الإسرائيلي بسعيه للحرب لانه يخشى من أن انعقاد مفاوضات بين الجانب الإيراني والجانب الأمريكي قد يخفف الضغط الدولي على إيران ويفقد الضغوطات الاقتصادية جدواها في ظل الإنقسام الدولي في هذا الملف. كما ان الإدارة الأمريكية في مطلع العام القادم ستتفرغ للانتخابات الرئاسية التي يسعى ترامب عن طريقها للحصول على ولاية ثانية، وهذا الإنشغال بالانتخابات قد يؤدي الى تفريط بالمطالب الاسرائيلية في حال انعقاد المفاوضات أو استقر الوضع على ما هو عليه اليوم.
وعلى ضوء ما تقدم فقد نشهد حادث او حوادث اخرى قد تكون أشد قساوة وأكثر استفزازاً لجر المنطقة إلى آتون حرب لتحقيق رغبات كيان الشر، الكيان الصهيوني. لكنني على يقين أن نهايته قد ازفت.
قيس السعيدي
كاتب يمني