تعيدنا عمليات التسلل الفردية، التي زادت في الفترة الأخيرة من حدود قطاع غزة الشرقية والشمالية، تجاه مستوطنات العدو وتجمعاته في أرضنا المحتلة، إلى زمن دوريات الفدائيين الفلسطينيين والمصريين والعرب عموماً، حيث نجح الفدائيون العرب حتى سبعينيات القرن الماضي، في القيام بدورياتٍ عسكريةٍ من الخارج إلى فلسطين، تمكنوا خلالها من تنفيذ مئات العمليات العسكرية الناجحة، ضد أهدافٍ عسكرية واقتصادية إسرائيليةٍ، وتجمعاتٍ استيطانية ومراكز ومؤسساتٍ أمنية حساسةٍ، انطلاقاً من نهر الأردن وجنوب لبنان، ومن قطاع غزة أولاً، ثم من الأراضي المصرية بعد احتلاله عام 1967.
عمليات الفدائيين أو ما أطلق عليها في حينها "الدوريات" كانت عملياتٌ ناجحة ومميزة، ما زلنا نحفظها ونذكرها، ونشيد بها ونمجد أبطالها، فقد آذت العدو الإسرائيلي وأوجعته، وكبدته خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والمعدات، ونجحت في حرمانه من الأمن، وهددت وجوده واستقراره، وأعاقت كثيراً موجات الهجرة اليهودية إليه، وقد تركت هذه الدوريات بصماتها على العدو وأربكته، ودفعته للقيام بعملياتٍ انتقاميةٍ فشل في أغلبها، ولعل أكبرها كانت معركة الكرامة في الأردن عام 1968، التي مني فيها بهزيمةٍ نكراء ما كان يتوقعها أو يتخيلها، خاصةً بعد انتصاره المدوي على الجيوش العربية في حرب الأيام الستة.
تلك العمليات كانت منظمة ومنسقة، ولها قيادة موحدة وعندها مرجعية، وكانت تخضع لإدارة القوى والتنظيمات الفلسطينية، التي كانت تتنافس فيما بينها وتتسابق، ولكنها كانت تنسق وتتعاون، وتشترك معاً وتتساند، وقد كانت عملياتها تنفذ ضمن خطةٍ عامةٍ واستراتيجية متفق عليها، وكانت تلقى الدعم والإسناد من بعض الأنظمة العربية، التي كانت توفر لها السلاح وتؤمن لها المال والمكان، وتسهل عودة أفرادها إلى أرضها حال انسحابهم وعودتهم، بعد تنفيذ عملياتهم والانتهاء من مهماتهم، ولهذا فقد نجحت هذه الدوريات وأثمرت، وتطورت وتوسعت، وتنوعت وتعمقت.
لا ندعي أن عمليات الدوريات قد كانت ناجحة كلها، وأنها كانت بلا خسائر أو ضحايا، وأنها كانت سهلة وميسرة، وبسيطة وغير معقدة، وأنها كانت آمنة وغير خطرة، وأن جميع أفرادها كانوا يشتبكون مع العدو وينجحون في العودة إلى قواعدهم سالمين، وأن العدو كان لا يقوى على مواجهتها وصدها، أو الحد منها وإفشالها.
بل إن بعضها قد فشل قبل أن تبدأ، وبعضها قد أحبط أثناء المواجهة والاشتباك، وبعض أفرادها قد استشهدوا، وغيرهم كثيرٌ قد أسروا وأعتقلوا، وقضوا في سجون العدو ومعتقلاته سنين طويلة، قبل أن يتم إطلاق سراحهم في عمليات تبادل الأسرى التالية، خاصة أن العديد من أفراد الدوريات كانوا من جنسياتٍ عربيةٍ مختلفةٍ إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين.
عمليات الدوريات ومهام الفدائيين القديمة، لا تشبه عمليات التسلل الفردية التي يقوم بها بعض شبان قطاع غزة الثائرين، فتلك عملياتٌ توصف بأنها ناجحة وممكنة، ونسبة أمانها أعلى، ودرجة مخاطرها أقل، وقدرة أفرادها على إلحاق الأذى بالعدو عالية، واحتمال عودتهم إلى قواعدهم سالمين كبيرة، الأمر الذي جعل الفدائيين يتسابقون إليها، ودفع التنظيمات الفلسطينية إلى زيادة أعدادها والاهتمام بتنظيمها، كما قلل نجاحها كثيراً من درجة انتقادها ورفض الشعب لها، وعزوف النخب عنها.
بينما العمليات الفردية التي تتم هذه الأيام على حدود قطاع غزة، فهي تفتقر إلى مميزات الدوريات، ويعوزها المركزية والتنظيم، والقيادة والإدارة، والخطة والقدرة، والرؤية والاستراتيجية، ويكتنفها الخطر الشديد، حيث تزداد احتمالات كشف العدو لها وإحباطها، وتتعاظم فيها نسبة الخسائر والضحايا، حيث يستشهد أغلب أفرادها قبل عبورهم السياج الفاصل، وقبل اشتباكهم مع جنود العدو، الذين يملكون القدرة الكبيرة على اكتشافهم عن بعد، والتنبؤ بهم مبكراً، والتعامل معهم بقوةٍ ودقةٍ، وإطلاق النار عليهم من مواقع أرضية وأحياناً بواسطة الطائرات المروحية أو الآلية المسيرة، الأمر الذي يصيب الشعب باليأس والإحباط، ويضعف روحهم المعنوية، فضلاً عن حالات الحزن والأسى العامة، بسبب استشهاد المقاومين دون اشتباكٍ أو قتالٍ.
العمليات الفردية التي تتم دون تنسيقٍ مركزيٍ أو إعدادٍ مسبقٍ، متقنٍ ومنظم، قد تعرقل الخطط العامة، وقد تفسد الاستراتيجيات الكبرى، وقد تؤدي إلى تدخل العدو المفاجيء، وقد تدفعه للقيام بعمليات قصفٍ أو اجتياحٍ، تستهدف مقار المقاومة وقدراتها، ومخازن أسلحتها ومستودعاتها، الأمر الذي من شأنه أن يربك قوى المقاومة التي تتهيأ لما هو أكبر وأكثر تنظيماً وأوسع أهدافاً.
وعليه فإن على قوى المقاومة وقادة الشعب الفلسطيني، أن يعملوا بحكمةٍ ومسؤوليةٍ على ضبط هذه الظاهرة والحد منها، حفاظاً على حياة أبناء شعبنا، وحرصاً على أهلهم ومستقبلهم، ومنعاً لإنهيار الروح المعنوية وإحباط النفوس الشعبية، ولا يكون الحد منها بالسجن والقهر، والتعذيب والإساءة، ولا بالنكران والجحود، والتخلي والبراءة، وإنما بالاستيعاب والاحتواء، والحدب والعطف، والضم والجمع، والتوجيه والإرشاد، فلا نكسر ظهر شعبنا بالقسوة عليه والإساءة إليه، فهو الحاضنة والضمانة، وهو العمق والسند والخيمة والوتد، وهو سر الصمود وبوابة الانتصار.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي