عادة ما يقوم مديرو أجهزة الإعلام بوضع أسس عملية تداول "الصور
والمعلومات"، ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك
الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا، بل وتحدد سلوكنا في
النهاية. وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا
تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول. ذلك أن
الأفكار التي تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف، وإلى إنتاج وعي لا
يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها،
سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ليست في الواقع سوى أفكار توظف من
أجل تضليل الوعي المجتمعي تجاه قضية محددة.
التقرير الذي طرحته قناة الحرة في 31 آب، مثل نمطا واضحا وجليا من
أنماط التضليل السياسي والإعلامي، حيث تجلت خباثة القائمين على البرنامج
بشكل واضح ومنذ بداية البرنامج، عندما اظهروا مسيرة لمعممين شيعة، خارجين
في تظاهرة سلمية، ومعها صوت لرجل دين سني يقول فيه (انتشر الفساد في كل
مفاصل الدولة)! وهي محاولة واضحة وجلية في خبثها وقصديتها لتسقيط العمامة
الشيعية، حيث اعتمد أصحابها على مبدأ تداعي المعاني الذي سيصاب به
المتلقي للرسالة الإعلامية.
إن تبني ما طرحه هذا الشيخ السني ، الذي ادعى بأن في كل جامع فساد، هو
أمر مجروح في صحته وموضوعيته، إذ من هو هذا الشيخ؟ وما هي المصادر
الموضوعية لمعلوماته واتهاماته، ليتهم أكثر من 10000 آلاف مسجد وجامع
وحسينية ودار عبادة، بأنها مملوءة فساد؟ وهل يحق لقناة الحرة أن تبتني
إعلامها الاستقصائي على مثل هذا النوع من الإدعاءات الغير موثقة، والغير
موضوعية ؟
أين القرائن على إدعاءاته؟ هل يكفي ادعاء شخص واحد لتتبناه قناة
الحرة، معتبرة إياه دليلا ؟
إلا إذا كان لإظهار كلام هذا الشيخ، وإدعاءاته هذه في مقدمة البرنامج،
هدفا آخر، وهو تهيئة ذهن المتلقي إلى وجود فساد في العتبتين المقدستين ،
متبعين لمنهجين من مناهج التضليل الإعلامي، وهما منهج التشويه بالإضافة،
ومنهج التشويه بالتحريف !
ومع أن القائمين على البرنامج قد جمعوا في نقدهم لرجال دين سنة وشيعة،
وقدموا السنة على الشيعة، إلا أن المتتبع الحصيف سيرى بأن تقريرهم عن
السنة كان بسيطا ويذكر شخصيات هامشية في الحياة السنية، بينما نجد أن
دسومة وعمق التضليل الإعلامي، تجلى بأوضح معانيه في التقرير المتعلق
بالجانب الشيعي، المتعلق بالعتبات المقدسة التي تقودها المرجعية الشريفة
في العراق، حيث ربطوا ذهن المتلقي بشكل غير مباشر بين نقد إدارة العتبة،
وبين فكرة أن المرجعية هي المسئول الأهم في إدارتها، والتصرف بأموال
الوقفية العائدة لها، موحين للمتلقي بـأنها منتفعة بشكل شخصي من هذه
الأموال ، ثم عرجوا مطولا على المشاريع الخدمية الكبيرة التي قامت بها
العتبتين بتوجيه من المرجعية الشريفة، وعلم ومتابعة دقيقة من قبلها، ومن
ثم عرجوا على فرق المتطوعين من الحشد الشعبي في فرقة العباس القتالية، من
الذين ضحوا بأرواحهم وبذلوا الغالي والنفيس من أجل حماية تراب الوطن وعرض
نسائه من هجمات العصابات الإرهابية المجرمة لداعش، بينما حاولت القناة في
توصيفاتها الخبيثة، أن تعطي إيحاءات بأنها قوات عسكرية مشابهة للمليشيات
المسلحة المنفلتة !
ومما يجدر الإشارة له أن تقديمهم للتقرير السني كان الهدف منه أيضا ما
يحويه من تقارير رسمية كثير تثبت فساد بعض رجال الدين السنة، وكثرة هذه
التقارير وموضوعيتها القانونية، كانت هي أيضا أسلوبا آخر لتهيئة ذهن
المتلقي وانفعالاته، وتعبئتها مسبقا بالحنق والغيض، حتى يصل الموضوع
للعتبات المقدسة والمرجعية الدينية من خلفها، سيكون عندها ذهن المتلقي
جاهزا (انفعاليا)، لكي يتلقى أي تهمة، حتى بدون أي أدلة أو وثائق يعتد
بها .
وإذا عرجنا إلى ما طرحه المدعو غيث التميمي، القيادي المليشياتي
السابق في جيش المهدي، والمتهم بالعديد من عمليات القتل والتهجير القسري
في الحرب الطائفية، نجده قد أشار إلى أن الأحزاب السياسية، تمتاز بالضعف
أمام سطوة المؤسسة الدينية، وذلك بسبب فساد هذه الأحزاب! وحقيقة لا أعلم
ما هو الترابط بين الاثنين، وهل أن هناك مصاديق لهذه السطوة التي يدعيها
غيث ضد المؤسسة الدينية (كأن تكون سطوة قضائية ، أو عسكرية، أو اجتماعية،
أو اقتصادية)، لكي تخافها الأحزاب السياسية؟ أوليس المرجعية الشريفة قامت
بالتبرؤ أكثر من مرة من الفساد والمفسدين الموجودين بكثرة في الممارسة
السياسية ؟ أوليس مطالبة المرجعية مرارا وتكرارا من الشعب كي يثور بوجه
هؤلاء المفسدين ويقتلعهم، هو أفضل مصداق على كذب غيث بأن المرجعية ساكتة
على فسادهم وتخوفهم بما تعلمه عنهم من هذا الفساد ؟
في ملف العتبات الشيعية، يبدأ الموضوع بداية ساذجة مشخصة للإنسان
النبه (ظهور شخص مخفي الوجه)، يسأل : أين تذهب أموال العتبتين !
ومن أنت يا أحمق لكي تسأل هذا عن أموال أو قضية تعود في مأذونيه
التصرف فيها لمراجع الدين الكرام، لإنفاقها في قضايا وموارد ومواقف إما
تتعلق بالحياة العامة الخدمية التي تمس حياة الناس، أو تتعلق بتطوير
وتوسعة آليات ومؤسسات التبليغ الإسلامي والديني، ونشر مفاهيم أحكام
الإسلام، ورفع راية لا إله إلا الله، من خلال بناء المدارس الدينية
الوقفية، على امتداد مساحة العراق، أو الإنفاق على مؤتمرات وطباعة كتب،
أو إنشاء مؤسسات خيرية ترفد الطبقات الضعيفة بموارد الكفاية وردع الفقر
عنها ، وغيرها الكثير .
إن جلب اثنين مجهولين يستطيع أي شخص جلبهم من أي مكان، بدعوى أنهم
ناشطين مدنيين (وغالبا ما يطلق مصطلح ناشطين مدنيين لدينا، على فئة من
الناس لديهم مواقف عداء وحنق وغيض مسبق، من أي حالة دينية ، حتى لو كانت
حالة دينية مقبولة في الأدبيات المدنية) لتجعلهم شهود في مثل هذا
التقرير، لهو من أوضح طرق الاستخفاف بعقول المتلقين والتلاعب بها.
لا أعلم ما هي الصلاحية الممنوحة لقناة الحرة، لكي تتلاعب بوعي
المتلقي بهذه الطريقة الفجة والسخيفة؟
أما في قضية المطبعة، واستثمارها في تحقيق واردات تعود لخزينة
العتبتين، إضافة لذكر التقرير للكثير من المشاريع الخدمية والاستثمارية
التي تقوم بها العتبتين، صراحة أستغرب كثيرا من أسلوب التحقيق والطرح
المتهافت الذي اعتمدته الحرة في هذا الموضوع، وهي تغفل أو تستغفل
المتلقين عن محورين مهمين تقوم عليهما مشروعية هذه المشاريع.
الأول أن هذه الأموال المستحصلة من العتبات هي أموال وقفية تنحصر
مأذونيه التصرف فيها للحاكم الشرعي حصرا، وفكرة حصر مأذونيه التصرف في
الأموال الوقفية بأذن الحاكم الشرعي، هو من الأمور التي تتعلق بالعقيدة
الإسلامية الشيعية لأكثر من 65% من الشعب العراقي (حالها في ذلك حال
أموال الخمس والزكاة التي يدفعها الفرد عن كامل رضاه وسروره للحاكم
الشرعي، ليتصرف بها بما يراه من موارد ضرورة واحتياج)، فموارد إنفاق هذه
الأموال على المشاريع الخدمية أو الاستثمارية، يندرج ضمن إطار نشاط
القطاعات الخاصة، أي أنه لا يدرج في إطار ما يصطلح عليه إجمالي الناتج
الوطني للدولة، فهي ليست مشاريع دولة، والمرجعية هنا، كمؤسسة خاصة (أي
ليست مؤسسة حكومية)، هي المخول الوحيد بالتصرف في هذه الأموال واختيار
نوع المشاريع وأماكنها بما يتلاءم مع أهدافها في خدمة المجتمع، وخدمة
الوعي الديني والأخلاقي والثقافي فيه، فأنشأت المعامل والمصانع، وتقوم
بعد ذلك باستثمار عائدات هذه المصانع في توسعة نشاطها الخدمي للمجتمع، أو
توسعة نشاطها التوعوي الأخلاقي والديني، وصراحة يعد هذا الأمر من صميم
واجبات المرجعية الدينية لدينا في الفقه الشيعي.
الأساس الثاني والذي يمنح المشروعية للعتبات المقدسة (كمؤسسة خاصة)،
لإقامة مشاريعها الخدمية والاستثمارية (كقطاع خاص)، هي خضوع العراق لنظام
السوق الرأسمالي الحر، أو ما يسمى بالسوق المفتوح، والذي يتيح لأي قطاع
خاص لأي مؤسسة، إقامة المشاريع الخاصة، وتوفير العمل لأكبر عدد ممكن من
الأيدي العاملة، مما يسهم في القضاء على أزمة البطالة، والتي أرهقت
الدولة، بل أن تطور مثل هذا النوع من المشاريع، سيسهم في دفع عجلة
الاقتصاد الحر، وإقامة تنمية مستدامة، تتطور بشكل مستمر .
ومن مفارقات البؤس والسطحية في تقرير الحرة، جملة أوردها مقدم
التقرير، يراد لها أن تسهم في إتمام عملية التضليل الإعلامي، حيث يقول
(أن أهالي كربلاء، يرون أن واردات هذه العتبات، تمثل الوجه الآخر لسطوة
رجال الدين في العراق) ! ، أين هم هؤلاء الناس من أهالي كربلاء ؟ هل حصل
استبيان رسمي أخذت فيه عينة كبيرة من أهالي كربلاء (لا تقل في مثل هذا
النوع من الاستبيان عن 5-10 آلاف شخص)، لكي يكسب إدعاء الحرة حينها
المشروعية الموضوعية؟ خاصة وأن قناة الحرة والقائمين على عمل هذا
التقرير، يتغاضون عن وجود عشرات الآلاف من أهالي كربلاء يمثلون أيدي
عاملة محترمة، تتكسب من هذه المشاريع التي تقيمها العتبتين في زمن ضربت
البطالة بأطنابها في كل مفاصل الحياة.
أما المداخلة السطحية للمدعو انتفاض قنبر، فهي تدرج أيضا وعلى نفس
المنوال، ضمن أساليب التضليل الإعلامي، والمعتمد على مبدأ الشكية
التضليلية، حيث يدعي أن العتبتين قد خرجتا عن إطارهما الديني، وأنها بدأت
تقيم مشاريع، وتتصل بدول ، وتتدخل بالسياسة وتنشأ قوى مسلحة! وهنا يؤخذ
على كلامه المتهافت عدة مآخذ، الأول ذكرناه سابقا، من مشروعية توسع
المؤسسات الخاصة في أي مجال اقتصادي أو استثماري، في ظل نظام السوق الحر،
القائم على الانفتاح الاقتصادي الاستثماري.
أما في قضية الجناح العسكري، فالكل يعلم أن المرجعية الدينية كانت
تمثل الراعي الأول في قضية الدفاع عن العراق ضد الإرهاب وداعش بعد أن
عجزت الدولة ، وانهيار الجيش واختراقه من قبل الإرهابيين ، مع تخاذل واضح
من قبل الجانب الأمريكي في مساعدة العراق حينها، للقتال ضد داعش (كما صرح
بذلك هوشيار زيباري في لقاء تلفزيوني)، كل ذلك دفع المرجعية الشريفة
للتصدي، والتدخل بكل الوسائل الممكنة، للحفاظ على العراق دولة وشعبا
وأرضا، من الانهيار والدمار.
القضية المهمة التي أريد التنويه لها، هو أن انتفاض قنبر ومن يقف
خلفه، يجهلون أو يتجاهلون، أن قضية تصدي المرجعية الدينية للقضية
الاقتصادية والتثقيفية، والعسكرية الدفاعية (الظرفية- أي المتعلقة بظرف
داعش، حيث أن الفصيل المسلح التابع للعتبة، قد جرى دمجه مع تشكيلات قوى
الأمن العراقية، وهو خاضع للقائد العام للقوات المسلحة)، إنما نابع من
فكرة أساسية في ديننا الإسلامي، والمذهب الشيعي بالأخص، وهي : أن الدين
ورجل الدين، هما جزء أساسي من الحياة العامة، ولا يمكن إخضاع الوعي
الإسلامي الشيعي، للمفهوم الغربي البائس، الداعي لفصل الدين عن السياسة،
وإبعاد الدين عن الاهتمام بمشاكل الحياة العامة للناس (وهي الفلسفة التي
يحاول مدعي المدنية والعلمانية –كقنبر وغيره- في العراق، جرها من مجتمعات
نشوؤها الغربية، ومحاولة إسقاطها على المجتمع العراق، وفرضها علينا
قسرا).
أخيرا، التقرير الصحفي الاستقصائي الناجح والمحترف، والحائز على كل
مقومات الموضوعية، يتحرى الحقائق الدقيقة، سواء أكانت هذه الحقائق سلبا
أو إيجابا، وتركيز الحرة في تقريرها، وبهذا الشكل الفج، على سلبيات (نسبة
الكذب والتضليل فيها تجاوز الــ 97%)، إنما يدل على أن القضية مؤدلجة
أمريكيا، وهدفها تسقيط الدين ورجاله، ووضع حد للتدخل الإيجابي للحوزة، في
خدمة الشأن العام للمجتمع، ومن جانب آخر، فإن تضليل عقول البشر تعد (أداة
للقهر). فهو يمثل أحد الأدوات التي تسعى الأطراف المغرضة من خلالها إلى
(تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة)، مستغلين في ذلك تحول قسم كبير من
السكان إلى عناصر فعالة (من الوجهة الإمكانية) في العملية التاريخية، حيث
أن التضليل الإعلامي يسمح بالمظهر الخارجي للانخراط النشط، بينما يحول
دون الكثير من الفوائد السيكولوجية للمشاركة الأصلية .
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة الأمريكية المعاصرة في السياسة.
د. محمد أبو النواعير.