التقيت أحد الأصدقاء صدفة وجرى بيننا حديث مطول عن وضع البلد، بدأه صديقي بسؤال استنكاري عن رهاني على مشروع الإجماع الوطني الذي قادني إلى الانخراط في حملة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني.
قال لي الصديق" بنبرة فيها استنكار نجحتم، وها أنت في الحزب الحاكم.. وماذا بعد؟
قلت على البديهة إن هناك أشياء تجمل المشهد من وجهة نظري، وتضيف إليه المسحة الأخلاقية والبناء الاستيراتيجي للبلاد
ولقد ظهرت بالفعل أنه تمت إعادة تأسيس للحياة السياسية على أسس جديدة، وفتحت ورشات كبرى للإصلاح، وأعيد تعريف الدولة باعتبارها خادمة للمواطن، وبدأ تقويم الاختلالات، وأنتج هذا مسار تغيير عميق وشامل يرى ملامحه من يتأمل.
كانت إجاباتي مقتضبة، وموجزة، وقد رأيت أن أبسطها، وأوضحها، وأن أخرجها من حيز الشخصي والخاص إلى حيز العام، والمشترك، إنصافا للمرحلة، واحتراما للتاريخ.
وإليكم تفاصيل عناوين تلك الإجابة التي إن ضاق عنها وقت محدثي أتمنى أن تتسع لها صدوركم.
مناخ سياسي تشاركي هادئ
لا تخفى على المتابع بعين البصيرة أن ما شهدته الحياة السياسية في البلد خلال الأشهر الستة التي مضت منذ استلام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم، أكثر من أن يعبر عنه بمصطلح "تطبيع الحياة السياسية" أو "الانفتاح السياسي"، ومن يستخدمون مثل هذا المصطلحات يتجاهلون قصدا، أو يغفلون تاريخ العهود الاستثنائية التي خيمت على الحياة السياسية بأشكال متقطعة، ومختلفة منذ الاستقلال إلى اليوم.
إن تاريخ العلاقة بين السلطة في البلاد والقوى السياسية المعارضة اتسم بسمة واضحة تتراوح بين "الريبة" و"التخوين" وفي الحد الأدنى بمستوى قياسي من "انعدام الثقة" المتبادل.
وقد ترسخت هذه السمة في العقد الأخير، وتطور الأمر بينهما إلى "تناوش إعلامي" دائم ينزل أحيانا إلى مستويات قياسية من التنابز المتبادل.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الحياة السياسية كانت تعيش "حالة استثنائية" لم ينزع فتيلها إلا مع مجيء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والمسار الذي سلكه في التعامل مع المختلف سياسيا على مستوى الخطاب أولا منذ انطلاقة الحملة الرئاسية، وكرسه ممارسة بالتعاطي المباشر مع الفاعلين السياسيين بعد تسلمه السلطة في فاتح أغسطس الماضي.
وفي هذا الإطار كانت إعادة إطلاق حزب الاتحاد من أجل الجمهورية على أسس جديدة، وكانت السمة التي غلبت في إعادة الإطلاق هي نفسها تحمل بصمة العهد الجديد من حيث حجم الانفتاح الذي شهده المؤتمر، والتشكيلات القيادة التي خرج بها.
قد تكون الطريقة التوافقية التي تم بها الأمر أقرب إلى الطرق التقليدية في إدارة الأحزاب في البلاد، وهي طريقة تحتاج كثيرا من التطوير، والتحسين، ولا شك أن ظروفا موضوعية دعت إلى سلوك هذا الطريق يضيق المقام عن تفصيلها، وستكون محل دراسة واعتبار لتفادي السلبيات والتأسيس على الإيجابيات في المستقبل.
إن التركيز على نتائج إعادة إطلاق حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، التي ستكون منطلقا لإعادة تأسيسه أفضل من الانشغال بنقد الشكل، وهو الطريقة التي تمت بها العملية، فالأول نظر في الجوهر، والثاني نظر في الشكل.
لقد كان الحزب يعيش حالة غير طببعية وكان إخراجه منها يحتاج إجراءات استثنائية وفرت الوقت والجهد ووجهت البوصلة إلى مسار سياسي عملي حتى لا يستمر الجدل الشاغل عن الانطلاق في الأوراش الكبرى.
وكان ترتيب الأولويات يقتضي إعادة الإطلاق سريعا وأخذ الزمن اللازم لإنضاج المعالجة الاستراتيجية.
- إنتاج مفهوم الدولة الخادمة
عرفت الأشهر الستة الماضية على مستوى الدولة تحولا كبيرا في نظر أجهزة الدولة إلى نفسها، وإلى علاقتها بالمواطن؛ فمع انطلاق الجهاز التنفيذي ممثلا في الحكومة حرصت على إبراز صفتها الرئيسية وهي كونها جهازا يخدم المواطن العادي، وليست جهاز حكم لا أكثر.
وقد يكون هذا أساس كثير من النقد الذي يوجهه بعض الناقدين من غير المغرضين إلى الحكومة وأدائها. ولا بد أن أبدي أسفي شخصيا على عدم تقبل بعض النخب المعارضة لهذا التغير في المفهوم، والحرص على البحث عن حكومة تحكم بدل حكومة تخدم.
إن أساس العدل هو أن تكون الحكومة، وأجهزة الدولة خادمة للمواطن العادي، تسعى في حاجاته الأساسية وفق الإمكانات المتاحة لها، وهو ما تحاول الجهات الحكومية حاليا التوجه نحوه، ولا شك أنه سيكون في سيرها الكثير من الأخطاء، وسيكون في طريقها الكثير من العقبات.
وأعتقد أن على الحكومة بذل جهد مضاعف لتذليل هذه العقبة، وإقناع المواطن بهذا التغيير حتى يكون عونا على أداء المهمة، وشريكا في العملية التنموية، وليس متلقيا للقرارات والتوجهات.
إن النقلة الذهنية التي نحتاج إحداثها في عقول جميع المواطنين وقلوبهم، هي الخطوة الأولى لجعل نظرتهم إلى عمل الحكومة تتجه وجهتها الصحيحة. وستتغير مع هذه النظرة طريقة التعاطي مع المصالح، كما ستتغير النظرة إلى المسؤولين ليتحولوا من ساكني أبراج عاجية إلى أناس عاديين يميزهم عنا فقط أنهم يتحملون مسؤولية توفير الخدمات الأساسية لنا.
تضمنت إعادة التعريف هذه إعادة الاعتبار للصلاحيات وتحمل المسؤوليات، وبعد أن كنا أمام سلطات عليا منخرطة في تفاصيل الملفات وجزئياتها، وتتدخل في سير الأمور اليومية أصبحنا أمام سلطات تعطي التوجه الاستراتيجي وتدع للجهة التنفيذية المختصة كامل صلاحياتها في تنفيذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق النتيجة العملية، وستكون السلطة العليا منحازة للمواطن في أي نقاش بينه وبين الجهة التنفيذية.
وقد كان من النتائج المباشرة لهذا التوجه إعادة الاعتبار للصلاحيات، والمسؤوليات، وهو ما ستثبت الأشهر والسنوات القادمة جدواه على البناء الوطني بأبعاده الاستراتيجية، والمؤسساتية، وسيلمس المواطن أثرها المستمر في حياته اليومية في الأمد المنظور، وسيحمي الدولة من كل أدواء الهشاشة التي تعاني منها الدول النامية في العقود الصعبة من مسيرة البناء.
من تسيير الأزمات إلى حلها
تميزت الأشهر التي مضت حتى الآن من المأمورية الأولى لرئيس الجمهورية ا
د.أحمد سالم محمد فاضل