طلبت رنا من أبيها المساعدة في رسم خريطة العراق، كجزءٍ من الواجب البيتي التي كُلِفَت به من قبل معلمة المادة.
لكنها فُوجِئتْ بردة فعل غريبة منه، تجاه المعلمة ومديرية التربية ووزارتها بل حتى الحكومة، حيث إتهم الرجل تلك الجهات بالعمل على تلويث أفكار "الجيل الناشيء" من خلال بث ما أسماها "خزعبلات "، يراد بها غسل الأدمغة وترسيخ أفكار دخيلة في أذهان التلاميذ.
جميع ما تطرق له هذا "النحرير" لم يكن مفهوما من طفلته، عدى مفردة خزعبلات حيث بقيت عالقة في ذهنها، كطلسم غامض أمام فهما الفتي، وهي تحاول البحث عمن يساعدها في فك رموزه.
في اليوم التالي حل ضيف عليهم شخص تربطه بهم علاقة مصاهرة، ويتميز بأسلوبه الهاديء في الحوار، كونه على مستوى جيد من الفهم والإدراك، ويمتاز بتحليله الواقعي للأمور.
سألته الصغيرة رنا طالبة مساعدته، عسى أن تجد لديه مايسعفها بمحضر والدها، الذي بدت عليه علامات الإمتعاض، كونها اشركت طرفا آخرا في مسالة داخلية حسب وصفه.
دخل الرجلان في نقاش حاد اخذ وقتا طويلا وشمل ابعادا عدة، وهي تراقب حيث وجدتهما أمام حالة من التناقض والاختلاف، الذان يصعب على من هم في عمرها، معرفة خلفياته أو الالمام بجميع أبعاده.
تضمن النقاش معانٍ غريبة واشخاصا لم يسبق ان سمع بهم احد من العائلة، أمثال الفرنسي بيكو والبريطاني سايكس والحدود الجغرافية والبعد القومي، والحالة العقائدية والحضن العربي.. وغيرها من المفاهيم التي هي بعيدة عن معالجة وضع البلد، وما يمر به من مشاكل، لدرجة ان الحاضرين وصلوا الى قناعة تامة، بأن الأب كان "خُزَعبليا" إلى حد النخاع، كونه يقضي جلَ وقته في نقاشات من هذا النوع وينحاز للمواقف التي تدعم توجهه المناصر، لاطروحة عدم الاعتراف بالحدود الجغرافية لبلاد المسلمين، ويذهب إلى فكرة الكيان الإسلامي الواحد، والذي يُعتَبر المشروع الجهادي العابر للحدود من أهم عوامل تثبيته، ضمن الصراع الدائر بين الإرادات والتوجهات المختلفة.
الغريب في الأمر أن شخصا كهذا يحمل هموم الامة، ويتطلع إلى تحقيق مصالحها _ لكنه بنفس الوقت متقاعس عن أبسط واجباته تجاه بيته وأسرته؟ فتراه يماطل لأشهر عديدة في مسألة إصلاح "الغسالة" التي طالما الحت عليه زوجته بشأنها، كونها تعاني من آلام الظهر مما يصعب عليها إنجاز العمل المنزلي كله.
هذا الشخص وأمثاله يعيشون احلاما بعيدة عن واقعهم الحقيقي، فيتبنون مواقف هي أكبر من حجمهم، وتفوق إمكاناتهم على الصعيد اللوجستي والنفسي، واصبحت تصريحاتهم محل جدل بين مختلف الأوساط.
الحديث هنا عن عناوين عريضة تقفز في وجهك فجأة قائلة: ( ساهم معنا في إزالة الحدود التي رسمتها الإمبريالية بضغطة زر !).. (كيف تصبح قديسا في نصف ساعة تقضيه بكتابة منشور يشيد بالتقدم التكنولوجي لهذه الدولة أو تلك).. أو ( تروج لشخصية من بلد اخر في فيديو كليب .. (أدخل لترى بنفسك إن لم تُصدّقني).. وقد تجد.. (إذا لم تصبح جزءاً من منظومة فكرية تخص شعب معين، فأنت خارج نطاق الملة والشريعة).
المزيد من تلك التصريحات التي تُصيبنا بنوبة عصبية، فينقلب مزاجنا عقبا على رأس أو بالعكس.. ألا يخجلون من أنفسهم ؟ ولو كنت أعلم بأنها بيعت بثمن يصفه الوطنيون المساكين بأنه بخس!
ألا يضجرون من الترويج لتلك ال....؟
بل كيف سيكون موقفهم في المستقبل، لو سارت عليه الأمور بخلاف ما يدعون؟.
وما هو جوابهم لمن يسألهم كيف إرتضيتم لأنفسكم، ان تكونوا جزءا من واقع طالما إدعيتم مخالفته لثوابت العقيدة؟.
من المؤكد إن الفراغ الذهني والكُساح الفكري، والعته الثقافي الذي يُعاني منه البعض، كلها اسباب لبلورة تلك المفاهيم.
الواقع يشير لإستحالة تحقق مايذهب إليه هؤلاء قريبا، مالم يكن هناك وعي جمعي شامل لجميع شعوب المنطقة، واتفاقها على هدف واحد يكون بديلا عن حالة البؤس والشقاء، التي عاشتها الجماهير في ظل الانظمة الإستبدادية، والتي لا يختلف اثنان على أن دعاة نظرية إلغاء الحدود هم اكثر استبداد وعنجهية من الأنظمة المقصودة.
فهل ستتفق الشعوب على هدف واحد؟
بطبيعة الحال الأمر يبدو شبه مستحيلا مالم تكن هنالك صحوة فكرية شاملة، والا سيبقى الحال كما هو عليه، كحال (غسالة ام رنا) ما دام زوجها منهمكا في الخوض في السجالات، التي اعتاد عليها دعاة
الحماوة في زمن العولمة
عباس البخاتي