التبرج تحت غطاء الحداثة في دولة إسلامية

أحد, 05/23/2021 - 21:05

آلمني أشد الألم، ما بلغت المرأة من المهانة والازدراء بنفسها، إلى الحد الذي تعرض به جسمها وأنوثتها هذا العرض المخجل في الشوارع والمجامع العامة والشواطئ، ورأيت أن المجتمع بذكوره وإناثه مغض عن ذلك الفساد بل وراضٍ به، ومغتبطٌ له، ومستمتعٌ به، غير آبه لما يجره ويهوي به في هوى الضلال والكفر بالله وكتابه.

 

إن وراء ذلك ولا بد، طامة كبرى ستحيق بهذا المجتمع لن ينجو منها إلا الذين ينهون عن السوء ويصرخون في أولئك الهاوين الغافلين لعلهم يفيقون ويرجعون.

 

فأمسك قلمي لأحاول أن أنهى عن السوء، وأن أدعو إلى الله ما استطع إلى ذلك سبيلاً.

 

وما إن استعرضت في مخيلي شتى الصور لتبرج المرأة، وتبلد الرجل، وتجرد الاثنين من الحياء والعفاف في هذا العصر المشئوم حتى انفجر بركان غضبي وسخطي لهول ما رأيت، واندلع لهيبه، وقذف على الورق بحمم تحجَّرت غلظة وقسوة.

 

وعدت أراجع دراسة وفحص هذا المجتمع الغارق في لجج الغفلة والهوى،السابح في بحر الملذات فإذا بي أعود مشمئزة مقتنعة أشد الاقتناع أنه لا ينبغي أن أستر كلامي عمن تجرد من ثوب الحياء، فلم يستر جسمه العاري، وألا أبالي بسخرية فاسق أو استهزاء من اتخذ آيات الله هزواً، واستنكار من لا يستنكرون المنكر، وذلك لأني أعتقد أن الجهالة والوقاحة لا بد أن تقابلا بالشدة والصراحة،ولأن الذي لا يستحي لا ينبغي أن يستحيا منه وليس بعد هذا التبرج وقاحة وجهالة وعدم حياء من الله ومن الناس.

 

معشر الناس

إن كانت الحقيقة مؤلمة جارحة فهل يليق بنا أن نتغاضى ونتعامى عنها، مهما كانت قاسية جارحة لئلا نتألم؟ أم يجب أن نواجهها ونحتمل قسوتها لنرعوي عما يضرنا ونتهذب؟

 

هل من الحكمة والعقل ألا نشرب الدواء لمرارته، أو نترك الصديد في الدُّمَّل ولا ننظفه خوفاً من أن يؤلمنا، وألا نمس الجرح ولا نعالجه كيلا نشعر بألمه.

 

كلا أيها السادة: بل ينبغي أن نطعن هذا الدمل بالمبضع بشدة لننظفه من الصديد، وأن نكوي الجرح لنطهره إذا لزم الأمر يجب أن نتواصى بالحق والصبر، وأن نحاول أن ندخل الحق في القلوب بكل ما نستطيع وبأية طريقة شرعية وبكل لهجة، وليس بعد النصح والإرشاد غاية مقدسة يأمر الله سبحانه بها ورسوله، وتدعو إليها الشفقة الإنسانية الكريمة.

 

أيها المسلمون:

إنكم تتحمسون وتثورون من أجل حطام الدنيا، من أجل جزء من الأرض انتهكت حرمته، ولا تتحمسون ولا تثورون من أجل الدين أو الشرف وقد دِيست كرامته. فأيهما أهم وأقدس، وأيهما أعز وأنفس ... نرى منكم في الهيِّن البسيط الحماس والتفاني، ولا نرى منكم نحو الأهم الخطير إلا التهاون والتواني، تتقون وتخشون عدواً من العباد، ولا تخشون ألد عدو في نفوسكم اسمه "الفساد" يقتل النفوس، فمن منهما العدو الأكبر، ومن منهما لأخوف والأخطر، ألا فثوروا أيها المسلمون على من امتهن أوامر الإسلام، وقاطعوا من خرج على الآداب والاحتشام، وحاربوا هذا الداء الوبيل الذي يهتك ويفتك بالأعراض والأجسام، لقد انتشر بينكم وباء كوباء "الكوليرا" فكيف تسكتون! وقد كثرت ضحاياه وعمت عدواه، وانتشرت الجثث الحية حواليكم فكيف لا تجزعون؟ بادروا إلى إنقاذ أنفسكم وأهاليكم من الوباء الفتاك وقوهم وعالجوهم بآداب وشرائع الإسلام لينجوا من شر هذا الهلاك.

 

التبرج هو إظهار الجمال، وإبراز محاسن الوجه والجسم ومفاتنهما، أو كما يقول البخاري – رحمه الله.

 

."التبرج أن تخرج المرأة محاسنها"

 

وأصل التبرج مأخوذ من البروج، وهي القصور العالية البينة الارتفاع، فالمرأة المتبرجة تعلن عن محاسنها بإبرازها أو تحديدها، كما تعلن البروج عن نفسها بارتفاعها.

 

وحفظاً للمجتمع من ضرر التبرج، وصيانة لأجسام النساء من التهتك ولحيائهن وعفافهن من الفساد، وإبعاداً لنفوس الرجال من الإغراء والتدهور، نهى الله العليم الحكيم النساء عن التبرج، وهو سبحانه الخبير بضعف الإنسان وطيش الشباب.

 

فاسمعن أيتها المسلمات أوامر الله لَكُنَّ، إن كنتن حقاً من المؤمنات: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ...﴾ [النور: 31].

 

اعلمن أن الخمار في قوله: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ  هو ما يغطي الرأس والوجه، والجيب هو فتحة الصدر مما يلي العنق، فلا تتغافلن عن أن الله تعالى يأمر كل مؤمنة بأن تغطي صدرها وعنقها بالخمار، لا رأسها فحسب، إذ يقول: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ).َ 

 

وهذا صريح جداً في وجوب الخمار الساتر لرأس المرأة وصدرها إذن فمن خلعته فكشف عن رأسها أو صدرها، فإنها لم تحترم أمر الله تعالى، فتصبح بذلك من العاصيات المستهترات بغضبه، عقابه. تنبهن أيتها المسلمات.: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ

 

إذ إنه لم يعيّن زينة في عضو أو ثوب. فإن ذلك يدل صراحة على أن كل عضو قد يكون فيه زينة وفتنة وإن المؤمنة التقية هي التي تقدر ذلك خوفاً من عقاب الله وغضبه.

 

والزينة: هي كل ما يضفي حسناً وبهجة (لسان العرب مادة "زين") ولا يقتصر ذلك على ما تتحلى به المرأة من الحلي والثياب والجواهر، وما تتجمل به من الأصباغ والأدهان، بل إن الزينة أكبر الزينة، وما خلق الله في جسمها من مفاتن وما فطره عليه من تناسق الأعضاء وجمال تناسبها.

 

"إن الله قد أنزل هذه الآية، وهو يعلم أن من النساء من تتحجب للزينة والفتنة، وتتجمل بالخمار لأنها تديره على رأسها مائلاً ذات اليمين وذات الشمال، وتحليه ببعض الحلية، أو بإرسال خصلات من شعرها اللامع على جيبها، أو تجعله على شكل تاج تزيد في جمال وجهها، حتى ليكون الخمار نفسه زينة للناظرين، عكس ما أراد الله من جعله ساتراً لزينتها وفتنتها، وزعمت أنها أطاعت الله واحتجبت كما أمر. ألا فلتعلم هذه المخادعة أن الله عليم بما في نفسها من شهوة التجمل والتبرج، وأنه لا يخفى عليه ما في قلبها من الاحتيال والمخادعة، فرغبتها في أن تبدو جميلة، وأن تحوز إعجاب من يراها ولو بالخمار، تبرج يمقته الله، ومعصية يعاقب عليها، ولذلك عقب قوله: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ .

  

تعلمن أنه تعالى ينهى عن استلفات النظر إلى زينة، وإن كانت مستورة، فالثوب الفضفاض الذي لا يبدي جمال الجسم يبرز منه شكل الأعضاء باهتزازها في الحركة العنيفة والمشية أو الالتواء الخليعة، كما قد يسمع عند الحركة رنين بعض الحلي المستترة.

 

  

وهاكم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية" وهو يثبت أن التبرج كذلك يكون بتضوع ريحها، وتعمد لفت النظر إليها بطيب العطر.

 

وعن أم سلمة، أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه.

 

فتدبروا يا أولي الألباب آيات الله وحديث رسوله.

 

واعلقوا ما فيها من حكمة وأدب، واعرفوا هذا الاحتياط الشديد، وهذا الحذر في الابتعاد عما يدعو إلى الزلل فما أحكم هذا الحرص الذي يأمر المرأة بأن لا تمتع غير عين زوجها بجمالها، ولا أذناً غير أذنه بحلو حديثها، ولا أنفاً غير أنفه بشذا عبيرها، ولا خيالاً إلا خياله بما تخفيه من زينتها وحليها، لتكون بذلك في حصن حصين، وسياج من الصون، متين أمين، بعيدة عن أنظار الفجرة الفاسقين.

 

  

ما بال الناس غفلوا، وخادعوا أنفسهم، فزعموا أن التبرج قد أصبح أمراً عادياً مألوفاً، لا يؤثر في الأخلاق ولا يثير دفائن الشهوات، ولا يوقد نار المحرم من اللذات.

 

أما إنهم لو عقلوا لعلموا أن هذا الزعم باطل ومحال ولا شك. فإنه لو كان الأمر كذلك لصدق في حالة الزوج مع زوجه، ولانقلبت المودة بينهما عداوة، والشوق نفوراً، ولأصبح كل من الزوجين حريصاً أن يغير زوجه بعد لأي من الزمن. فهل هذا هو الواقع؟ أبداً فإن الرجولة هي الرجولة، والأنوثة هي الأنوثة، وإن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي جاذبية فطرية، لا تتغير مدى الدهر.

 

 وهي شيء يجري في عروقهما وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصماء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب وعلى غيرها من الأعضاء بل إن كل جزء من كل جسم يتميز عما يشبهه في الجنس الآخر، ولذلك تظهر صفات الأنوثة في المرأة في تركيب جسمها كله وفي شكلها، وفي أخلاقها وأفكارها وميولها. كما تظهر مميزات الذكورة في الرجل في بدنه وهيئته وصوته وأعماله وميوله. وهذه قاعدة فطرية طبيعية لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان ولن تتغير حتى تقوم الساعة.

 

﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾ [القيامة: 37 - 39]. ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]. ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].

 

 

يريد سبحانه وتعالى بذلك أن اجتناب عمل الفاحشة ليس هو كل ما يجب على المؤمن والمؤمنة، بل ينبغي أن يبتعد كل منهما عما يقوده إلى الزنا من مغريات، وألا يقرب مما يحيط به أو يدني من متعة العين ولذة البصر أو الأذن أو أي حاسة من الحواس الأخرى، لأن من يقترب من التيار الجارف لا بد أنه غارق فيه، ولا بد هالك مهما قويت ذراعاه، ومهما بعد باعه في السباحة ومغالبة الأمواج. فالتيار الشديد يجذب إليه الأجسام الطافية التي تحوم حوله وتتعرض له فيجترفها وما هي إلا لحظات ومحاولات فاشلة حتى يبتلعها.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان وزناهما البصر" وقال أيضاً: "ثلاث أعين لا تمسها النار: عين غضت عن محارم الله، وعين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله".

 

نفهم من ذلك أن تمتع النظر ضرب من الزنى، وحظ عظيم من اللذة، وجزء مهم من تمتع الرجل بالمرأة، لذلك فهو يمتد ويصبو إلى الجميلة، وينفر من الدميمة، وهما في الأنوثة سواء.

 

ولذة النظر متعة عظيمة للإنسان. فكم أنفق الناس من النفقات الباهظة لتتمتع أنظارهم، فزينوا البيوت والسقوف والجدران، وأنشؤوا الحدائق ونسقوها بأشجار وأزهار، وأثثوا ديارهم بفاخر الرياش والأثاث الذي يلذ العين ويمتع البصر وهم لا يلمسون، ولكنهم يتلذذون بأبصارهم، فلذة العين تشترك في كل لذة، حتى لذة الأكل، ولذلك يقال: العين تأكل أكثر من الفم، بل إن النظر إلى الأكل الشهي يكفي وحده لبدء إفرازات العصارات الهاضمة في المعدة.

 

فإن كانت العين تتلذذ بمنظر المآكل والفواكه الشهية أكثر مما يتلذذ الفم بطعمها. فكيف بتلذذها في التهام الجمال، ولحم ذات الحسن والدلال. فينبغي للمسلم أن يلجم عينيه بلجام الحياء والعفاف حتى ينجو من الزلل فالشهوة لا تصحو إلا إذا أيقظها، ولا تنتبه إلا إذا دعاها. والمرأة المتبرجة شرارة للزناد تغوي بجمالها العباد. وتنشر من حولها الفساد لأن كثيراً ممن يرونها، ضعاف عزاب في سن الطيش تتحكم فيهم رعونة الشباب، تتضور نفوسهم جوعاً عند رؤية لحمها كالذئاب فيبحثون عما يشبع نهمهم ولو كان جيفة منتنة، فيتهافتون عليها تهافت الذئاب فالويل لها من شيطان رجيم، تأخذ الرجال إلى نار الجحيم، فلو احتشمت المرأة واجتنبت التبرج والخلاعة في كلامها ومشيتها لما انتشر هذا الفساد والشر المستطير، إذ من المحال أن تصان الأعراض وكرامة الأسر إلا بالاحتشام والغض من البصر.

 

كل امرأة خرجت من خدرها إلى الطرقات عروساً قد أخذت زخرفها وازينت لسان حالها يقول:

ألا تنظرون إلى هذا الجمال؟ هل من راغب في القرب والوصال؟ إنها تعرض جمالها في أسواق الشوارع كما يعرض التاجر المتجول سلعته، وكما يعرض بائع الحلوى ما عنده مزيناً بالألوان الزاهية والأوراق اللامعة، ليسترعي الأنظار ويغري النفوس ويثير الشهية فتروج بضاعته ويكثر المشترون ويتهافت الطلاب والجياع النَّهمون.

 

كيف تقبل المرأة المصونة العفيفة عرض جمالها في السوق سلعة رخيصة تتداولها الأعين، وكيف يرضى لها حياؤها أن تكون مبعث إثارة شهوة في نفوس كل رجل يراها بل كيف تطيق الشعور بأنه يصبو إليها ويتمناها!! إنها لو فكرت في ذلك الأمر برهة لاحمرت خجلاً، ولسترت جمالها وزينتها عن الأعين الشرهة الوقحة.

 

 

يحيط الله المرأة المؤمنة في هذه الآية بهالة من الصون والكرامة، وأن تكون في إطار من الإجلال والإكبار فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يلزم نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن والجلباب: الثوب الواسع، أي أن يتسترن بثيابهن الواسعة ليعرفن بالحصانة والتقوى والعفاف، فلا يؤذين بأعمال سافلة، دنيئة، ولا تنغص حياتهن بنظرات وقحة جريئة ولا توجه إليهن أقوال مهينه بذيئة.

 

فبالله ماذا سترت نساء من يدعون الإسلام الآن من زينتهن التي أمرن بسترها إذا كن هكذا في الطريق، عاريات الأذرع والسيقان والصدور، باديات النهود والأرداف والخصور، مصبوغات الوجوه والعيون والثغور، حاسرات الرؤوس مسترسلات الشعور. ماذا تركت الشريفة لغيرها من فنون التبرج، وما أبقت لنفسها من ضروب الاحتشام، إنها لم تترك من ذلك ولم تبق شيئاً. فبالله أيتها السيدة المحترمة أتستطيعين أن تفرقي ما بين الراقصة الخليعة الفاجرة، وبين السيدة الشريفة الطاهرة، لذلك تطارد الذئاب الشريفة كغيرها! إذ يظنونها صيداً وقنيصة. فتسمع وترى ما يخجلها ويؤذيها، لأنها تشبهت بمن لا كرامة ولا شرف لها، ولم تتعزز وتتحصن بوقار الاحتشام. فضاعت عزتها وظنوها سلعة كبقية السلع وعرضت نفسها للمهانة والازدراء.

 

فيا حسرتا على النساء. لقد فقدت أيتها المسلمة احترامك عندما خلعت الخمار، وارتديت ثوب الخلاعة والاستهتار، فنُظر إليك بعين الازدراء والاحتقار.

 

الخمار: شعار التقوى والإسلام، الخمار برهان الحياء والاحتشام. الخمار سياج الإجلال والاحترام. الخمار يا سيدتي المسلمة أشرف إكليل لجمالك. وأعظم دليل على أدبك وكمالك.

 

صوني أيتها الشريفة المؤمنة جسمك الطاهر من اعتداء الأعين الزانية، وحصنيه بالاحتشام لتذودي عنه السهام الغازية، فليست الشريفة الطاهرة من لا تسمح لرجل أن يتمتع ببدنها وأن يلامسه، بل الطاهرة الحقة هي التي لا تسمح لعين أن تقع على جسمها الطاهر فتدنسه، والتي لا تطيق نظرة آثمة تنتهك طهارتها المقدسة. فإن للعفاف والطهارة درجات، كما أن للتهتك والعهر دركات فهناك عاهرة يتمتع بها الرجل ببدنه، وهناك عاهرة يتمتع بها الرجل بعينه، والنفوس تتفاوت علواً على درجات طهارتها وعفتها ونزولاً على دركات عهارتها وشراهتها، فهناك نفس عفيفة شريفة يصونها الحياء تتألم لنظرة جريئة، فتختمر احتفاظاً لهيبتها، وتحتشم وتستتر حرصاً على كرامتها، وإشفاقاً من أن يكون جمالها مطمع الأنظار ومطرح أقذار الأفكار، وهناك نفس خبيثة غاوية، مستهترة عابثة لاهية شرهة تنعم وتسعد بأن تعانقها وتداعب بدنها الأنظار، وتبتهج بأن تكون شهوة النفوس ومتعة الأبصار، فتبالغ في استعراض جسمها وأناقتها، وتغالي في التبرج والخلاعة طلباً للذتها هذه هي نفسية المتبرجة الشرهة، التي تعتبر في نظرة المدنية الكاذبة امرأة راقية، ولكن هل هي في نظر الإسلام مسلمة أو عفيفة طاهرة؟

 

 

مهلاً يا سيدتي، فأذواق الرجال وميولهم تختلف وتتفاوت فيمن يفضل النحيفة غير من يفضل البدينة، ومن يحب الشقراء غير من يحب السمراء، فتأكدي من وجود من يستحسنك من الرجال، وإن "كل فولة ولها كيال" وإن "لكل ساقطة في الحي لاقطة" وربما يوجد من يرى دمامتك جمالاً، بل ويوجد من الرجال الشره الذي يشتهي كل امرأة مهما كانت دميمة، فالنفس الخبيثة تستسيغ كل طعام، والنفس المحرومة الجائعة يعجبها أي غذاء. إذن فلا يجوز لأي امرأة دميمة أو كبيرة أن تتبرج، مهما كانت سنها أو شكلها.

 

كم من حكمة عظيمة في الاحتشام والاختمار والتحجب وعدم الاختلاط لا يفطن إليها إلا العاقل. فبذلك لا تستر الجمال فحسب بل وتستر الدمامة فلا تخجل الدميمة من قبحها، ولا تزدهي الجميلة بحسنها، ولا يرى زوج الدميمة محاسن غيرها فيتحسر على حظه ويحسد غيره بل هناك من الرجال (كما قلنا) من يصبو إلى من هي أدنى من زوجه جمالاً وكلما رأى نوعاً من الجمال تمناه، وكلما رأى حسناً لم يمتلكه اشتهاه، وكره جمال زوجه، وأصبح لا يرى منه ما كان يراه، ثم يتوق إلى كل ما لم تمتلكه يداه. وإلى تذوق كل ما لم يعرفه ولو كان في ذلك أذاه، فيسعى ما استطاع لإشباع شهوته، وإرضاء هواه، ولا يبالي بهتك عرض ولا بشقاء أسرة، ولا بغضب الله.

 

فتبرج المرأة ضرر جسيم، وخطر عظيم، يخرب الديار ويجلب الخزي والعار. فكم دعا إلى العدواة والبغضاء بين الأخت وأختها والأخ وأخيه، وكم فصل الزوج عن زوجه وحرمه وبناته وبنيه وكم خيب الآمال، وحسر قلوب النساء والرجال، ودعا إلى الحرام وترك الحلال؟

 

فأخفي جمالك الفتان أيتها المرأة ولا تؤذي النفوس وتغويها ولا تضيعي به الآداب والأخلاق وتفسديها، والزمي حدود ربك ولا تتعديها واستري زينتك كما أمر ربك ولا تبديها.

 

فما أسعد المرأة التي تشعر بأن جمالها بريء لم يقترف إثماً ولم يؤذ أحداً ولم يسبب حسرة ولم يثر شهوة ولم تلتهم لحمها الأنظار ولم تلُك عرضها الأفواه.

 

فجمالك إذا صنته كان سعادة ونعمة وإذا ابتذلته حولته شقوة ونقمة.

 

فكم من جميلة أغراها شيطان جمالها بالانغماس في التبرج والتزين والإفراط في الخروج والتجول، تهيم على وجهها مستعرضة لزينتها في كل وادٍ وتجول مستلفتة إليها الأنظار في كل ناد. فذهب شبابها، وخسرت مستقبلها في الدارين، ورغب الرجال عنها ونفروا منها مستنكرين، ولم يتزوجها واحد ممن كان يحوم حولها متملقاً، وكان ينظر إلى هذا الجمال العاري معجباً محملقاً. بل كان يتزلف إليها ويجزل لها الهدايا حتى ظنته عاشقاً وهي ربما لم تفرط في عرضها ولكنها عملت ما يوجب الشك وكانت مستهترة. فخسرت بجهلها وطيشها الدنيا والآخرة.

 

فبالله عليك أيتها المتبرجة، اعلمي أن الله يراك وأنه معك أينما حللت ففكري هل هو راض عنك؟ وتصوري كيف يكون انتقامه منك؟ فكيف تخدعين نفسك أيتها القاسية على نفسك إذ تتجاهلين مستهترة وأنت على يقين من أن الله يغضب عليك والرسول بريء منك والإسلام غريب عنك. ولن تعتبري من المسلمات يوم القيامة ولن تدخلي الجنة، بل ولن تشمي ريحها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة.

 

  

فما أفسد المرأة إلا فساد الرجل واستهتاره بدينه.

 

فكل امرأة فاسدة إنما دفعها إلى الفساد وفتح لها بابه أب أو زوج فاسد، لم يعرف الله ربه فعمي عن الصراط السوي، وجاهر بالخروج على الدين والأخلاق أو أب أو زوج ضعيف الإرادة مستضعف فقد نخوة الرجال وغبرتهم ضعيف الإيمان متغافل عن أوامر الله مستهين بمعصيته.

 

فكم من ابنة منكودة شقية أضلها أبوها بضلاله! وعداها بفساده! فشبت لا تعرف الحياء ولا الدين، إذ نشأت في أحضان الرذيلة، ولم تعاشر وتخالط إلا الشياطين. ثم قذف بها ذلك الأب إلى زوج فاجر مثله من الفاسدين المفسدين فراحت فريسة فساد واستهتار الأب والزوج، وهامت مثلهما في غياهب الضلال، وساقاها معهما إلى الجحيم.

 

وكم ابنة بائسة نكبت بأب ضعيف الإرادة استعبده هواه يزعم الإسلام بالله وكتابه ويصلي ويصوم ويقرأ القرآن، ولكنه لا يعرف معروفاً ولا يستنكر منكراً إذ يعشق التبرج، ويمقت الاحتشام، ويسخر من الحجاب ويعتبره قيوداً ثقيلة بغيضة، تحرم ابنته العزيزة حريتها بجمالها الفتان وشبابها الغض، فيغريها بالتبرج ويدفعها إلى العصيان بلا رحمة ولا يبالي بغضب الله، وهو يكرر قوله تعالى في القرآن: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾. وذلك لأنه أسير الهوى مفتون بحب ابنته أعمى حبها قلبه وفتن لبه، فأضلها وعصى ربه.

 

فأعجب لهذا الأب الحنون الذي يشفق على ابنته من الاختمار ولا يشفق عليها من غضب الله وعذاب النار.

 

وأعجب لهذا الأب المغرور المفتون بجمال ابنته الذي ينظر إليها متغزلاً مبهوراً ويقدمها لكل العيون مباهياً فخوراً، ولا يطيق أن يحبس حريتها في سجن الاحتشام وأن يدفن جمالها في قبر الخمار، كما يدعي. فكأنما بذلك يعترض على الله ويزعم أنه ظلمها وينتقد سنة الحكيم الخبير، كأنه أخطأ سبحانه وأساء التصرف، فحكم على المرأة بالعذاب والحرمان فلو كان هذا المخلوق حقاً من المؤمنين لما عارض مولاه وخالقه إذا هو أمر أمراً: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51]. ولو كان حقاً من المؤمنين لما تجاهل وتغافل عن أمر ربه ولانتفع بالذكرى كما قال الله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، فقل لي بربك أيها الأب الذي يزعم الإيمان بالقرآن هل من التقوى والإيمان أن تفهم أمر الله بالاختمار والاحتشام، ثم لا تغضب لتبرج ابنتك ولا تنهاها عن العصيان؟ وهل من الحب والحنان ألا تبالي بتعرضها لغضب الله وعقابه، ولا تحاول إنقاذها من مخالب الشيطان، ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].

 

وإنك أيها الأب القاسي أهملت تربية ابنتك الدينية ولم تعبأ بسعادتها الأبدية، في حين أنك عنيت أشد العناية بمتعها الدنيوية وسعيت إلى تعليمها العادات والتقاليد الغربية، وتركتها ترتع في المدارس على غير هدى تتعلم ما لا ينفعها وتعتنق بعصبية مذاهب دعاة السفور والفجور، وتتشبع بآراء محرري المرأة بل مضليها ومقيديها بأغلال الجهل والعصيان لقد أضللتها في سبل ملتوية من فلسفات عصرية تناهض الأديان، وتقوم حجر عثرة في سبيل طاعة الله وتنفيذ أوامر القرآن. فما أشقاها بل وأشقاك بها يوم تقفان بين يدي الملك الديان؟

 

وكم زوج وأب يزعم أنه مسلم وأنه رجل، يرافق زوجه وبناته إلى النوادي والملاهي وغيرها، وهن كاسيات عاريات مائلات مميلات، يمشين مشية خليعة تهز الصدور والأرداف، وترسل الشعور تداعب الأعناق والأكتاف، خجلا ًمن أن يتهادى بين الغيد الحسان من أهله، بل يفرح إن استرعى جمالهن الأنظار، ويفخر بأن تزوج أو أنجب جمالاً جذاباً بهر الأبصار، ويطيق أن يرى أو أن يسمع التغزل في زوجه أو ابنته، ولا يبالي بعين ترمقها، وقد تتبعها نظرة تفحصها وقبيحة تسمعها.

 

فيا للداهية الدهياء ترى كم فَقَدَ الرجال من رجولتهم حتى أصبحوا أشباه الرجال ولا رجال؟! فإن الرجولة شخصية وروح وغيرة ونخوة قبل أن تكون خشونة صوت وشارباً ولحية، أهذه هي الرجولة أيها المدعي الرجولة أن تسمح للعيون الدنيئة الطفيلية أن تجسر فتنظر إلى جسم نسائك وتنعم بحسنه ومفاتنه وكأن هذا الحسن وليمة قد قمت بالدعوة إليها وكأن هذا الجمال مشاع بينك وبين غيرك من الرجال حلال مشترك لهم قبل أن يكون حلالك.

 

 

فقوموا بأقدس واجب كلفكم به وصونوا أنفس أمانة أمركم بالمحافظة عليها ورعايتها، وقد حذركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبهكم إلى مسؤوليتكم عنها بقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[رواه البخاري ومسلم).

 

فكل أب مسئول عن ابنته، وكل زوج مسئول عن زوجه، كما أن كل رجل مسئول عن نسائه وأولاده وكل أهل بيته وأسرته، وكل مسلم مسئول عما كلفه الله به ووضعه في يده وتحت نفوذه وملكه قياده وزمامه. 

 

فمن أرخى الزمام كان مسئولا عن نتيجة إهماله، ولن ينجو مستهتر من عواقب استهتاره، ولا مفرط مقصر من العقاب على تقصيره ولا مستهين بأمر الله مستخف بغضبه من انتقامه وقصاصه في الدنيا والآخرة. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المسلمون المؤمنون لعلكم تفلحون واذكروا دائماً هذه الآية الكريمة، ولا تتغافلوا عنها وتتجاهلوها:

 

﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]

 

واذكروا دائماً الوعيد الرهيب في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) السجدة 22.

بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف