فائزة محمد علي فدعم
في الصباح الباكر شاهدت الورود في حديقتي تغلفها قطرات الندى واشعة الشمس تشرق بخجل وسط ضباب حالم . شعرت ببرودة ورجفة فغادرتها وهنا تذكرت ايام البرد والزمهرير في الزمن القديم وعدت بذاكرتي الى الايام التي شاع فيها استعمال اللمپة او (الچولة ) ذات الفتيلة لتخفف من عذاب المنقلة والفحم حيث الموقد الذي كان يحفر في الارض ويوضع فيه الخشب والحطب للطبخ والتدفئة واذكر ان اللمپة كانت من ماركة (كولمن ) ... كنا نستخدم المدفأة النفطية التي كان لونها اسود ونرى من خلال الزجاج لهيبها الجميل الذي يبعث الدفىء في نفوسنا وهي ماركة ( فالور) كنا نوقدها بعد صلاة المغرب .
وهي جميلة المنظر وقد اعتدنا ان نضع فوقها الكستناء والبلوط والجوز الكبير الحجم الذي كان يجلبه لنا من اربيل السيد صالح خوشناو وهو من جيراننا الاعزاء وحينما كنا نحيط بها ينعكس ضوئها راقصا على وجوهنا لينيرها . لاحظت والدتي يوما ان حول صدغي بقعة حمراء يحيط بها بقع صغيرة وفي تلك الفترة كانت (الأخت ) وهي حبة بغداد كما كنا نسميها قد انتشرت في المدينة ...
عند الصباح اصطحبتني الى مجمع الاطباء قرب بناية البريد القديم وفي ذلك الزمان كانت العيادات الطبية الخاصة كثيرة في تلك المنطقة ومنها عيادة الدكتور صادق ابو التمن والدكتور صبحي محمد نوري والدكتور وجيه علي نجا ودكتور آخر اسمه اكرم وهو من الاطباء المشهورين بحنكتهم فدخلنا عيادته وكانت لديه ممرضة اسمها (سليمة موشي ) يهودية الديانة وهي ايضا قابلة مأذونة فابتسمت لنا وهي فرحة لاني ولدت على يديها فرحبت بي وقبلتني وادخلتنا وبعد الفحوصات اخبر والدتي انها حبة بغداد وقال :
كتب لنا الوصفة الطبية فتوجهنا الى الصيدلية في دربونة البريد القديم وكان صاحبها السيد حبيب فتح الله الذي يلقب بأبي فؤاد وايضا كان يهوديا وكانت الصيدلية تقع بين محل السيد حميد التنكجي ومكوى ابو جمهور مقابل السيد قدوري رشيد الاودجي وكان صاحبها معروف في المدينة بانه رجل وقور ومحترم يقف دائما خلف مصطبة طويلة بعض الشيء وتوجد على الطاولة صورة كأس ملفوف عليه صورة ثعبان وهو شعار نقابة الصيادلة كذلك قناني من الزجاج في كل واحدة منها افعى موضوعةٌ في سائل اصفر اللون ومغلقة باحكام وهي مختلفة الانواع والاحجام مرصوفة على التوالي وهذا ماجلب انتباهي وبعد السلام والترحيب اخذ الوصفة وبدأ بتحضيرها .
كان في تلك الايام يتولى الصيدلي اعداد الادوية بيديه فقام باخذ بعض الحبوب وبدأ بسحقها في وعاء رخامي معتم قليلا وبعد اتمامه المهمة وضع المسحوق في كبسولات وقام بلف الورقة بشكل مخروطي ووضًع الكبسولات فيها واعطانا اياها وبعد ذلك اعطانا ابر عددها سبعة لزرقها بين يوم ويوم . وبينما كان يعد الادوية كنت اتوسل واقبل امي متظاهرة بالبكاء لكي تشتري لي افعى فما كان من والدتي الا ان نهرتني بغضب وهي تكتم صوتها لاهدأ فخرجنا مسرعين وعند باب الصيدلية التقت بأمرأة من معارفها وبدأت بتجاذب اطراف الحديث فانسللت من يدها ودخلت الى الصيدلية بخلسة وحذر وبيدي نقود كثيرة كنت اخذتها من والدتي مقابل موافقتي على الذهاب الى الطبيب . نظر لي فابتسمت وقلت (عمو ابو فؤاد عندي هوايه فلوس متبيع لي حية) فضحك وقال : هذه ليست للبيع فمن يفتح غلاف القنينة تهجم عليه وتلدغه ...
فشعرت بالخوف ونزلت من الصيدلية راكضة وخائفة فاقتادتني والدتي وهي غاضبة الى شارع البريد حيث يقع بيت المضمد السيد كريم ابو طارق الذي كان خلوقا طيبا واستقبلنا بحفاوة وقام بزرق الابرة وهو يردد كلماته المعروفة بيها الشفا بيها الشفا ...
لازالت صورة الشارع في مخيلتي حتى اليوم . اذكر انه كان يعج بالحيوية والحركة لان اكثر الدوائر الحكومية كانت في منطقة السراي ولهذا تتولى الشرطة حراسته كذلك لوجود موقف للسجناء انذاك . كان فيه ايضا ومقابل البريد تقع مقهى حجي (شكر) وفوقه المسافر خانه (فندق ) يسكنه الكثير من الموظفين والمستخدمين ومقابل المقهى المذكور مقهى اخر للسيد مجيد كرادي وفوقه ايضا توجد (مسافر خانه ) وكانت الدربونة المقابلة لبيت كرادي تسمى (راس العگد ) اثناء مسيرتنا جلب انتباهنا انتقال عيادة الدكتور صبحي محمد نوري الى الجهة المقابلة لنهر خريسان بجوار املاك عائلة بيت الخشالي . البيت الذي اصبح من املاك السيد اكرم البزاز وكانت مقاهي بعقوبة مليئة بالزبائن طيلة النهار وصوت المذياع مرتفعا وموضوعا على رف كبير من الخشب . تفرح النفوس لسماع الاغاني التي كان اشهرها المطربة نهاوند وسهام رفقي وقاريء المقامات (حسن خيوكة) وسعاد محمد وخضيري ابو عزيز ونجاح سلام وهي تغني اغنية (برهوم حاكيني زعلان سليني ) وكان هناك رجل اسمه ابراهيم يتميز بشاربه الكث التي يبرمه بيده يقول بصوت عالي انها تغني لي فيضحك مفتخرا ورواد المقهى يضحكون على كلامه وبين الشاي والحامض والسيفون وعامل المقهى اللطيف الصغير السن وبجانبها هناك ولد صغير آخر يجلس على دكة مجاورة يبيع الباقلاء وهي موضوعة في قدر كبير موضوع في علاگه من الخوص المصنوع من سعف النخيل وكعب القدر كان اسودا من كثرة الاستعمال . لاتخلو بعض حبات الباقلاء من الذباب وكان بجوار القدر بطل من عصير الرارنج يضاف عليها مع البطنج .
صادف في احد الايام عندما كنا نذهب لزرق الابر ان اتت سيارة كبيرة فيها ماكنة سينمائية تجوب شوارع بعقوبة وتحمل مايكروفونات توضح من خلال الصوت الى اليوم الذي ستعرض فيه الافلام السينمائية مجانا وكانت شاشة العرض تنصب على حائط السراي واحيانا على جدار بناية المحكمة واكثر هذه الافلام للتوعية من مرض حبة بغداد والبلهارزيا والملاريا والتايفوئيد والسل والجذام وفي ذلك الجزء من محلة السراي وكما اذكر كان يسكن ابن عم والدي الحاج محمد الحجية وصادف في المرة الاخيرة عند زيارته في بيته شاهدت منظر تقشعر له الابدان فهناك نسوة ورجال واطفال يودعون احد افراد عائلتهم لانه محكوم عليه بالاعدام وسيشنق اليوم . كان منظرا مؤلما فقد كانت المشنقة تنصب قرب مدرسة الوثبة قبل بناءها على طريق الهويدر _ خرنابات وياتي الناس للتفرج . بعدها ذهبنا الى شارع اخر كان يقع فيه بيت روبيل اليهودي الكبير جدا وفي مقدمته شناشيل .
كانت والدته تبيع الاقمشة للنسوة داخل البيت وسبق لي زيارتها مع الوالدة . كانت امرأة طويلة ترتدي عباءه وبويمة . محبوبة من قبل الجميع . اذكر عندما تقوم النسوة بمساومتها تقول كلمة باليهودية (ابيل ) ترددها كثيرا ونحن نضحك على هذا الجواب .
حين كنا نسير احيانا بالقرب من قنطرة السوق نشاهد رجل غريب الاطوار طيب الوجه والتقاسيم يحبه اهل المدينة اسمه (سبيع) يحمل بيده گونية وكان يدخل فرع المحكمة ويطرق الابواب ويقول اريد خبز يابس . يلف حول جسده حزام من القماش وضعت فيه حربة مدببة ومخيفة للاطفال ومشط من الخشب . كان فقير الحال رث الثياب شعره اشعث لم يرى الماء والمشط منذ دهر . وعندما يجد ان ( الگونية) قد امتلأت يمشي صامتا ويعود الى حيث يسكن وهنا انتبهت الى نفسي وعدت الى ايامنا وشاهدت عبر الشباك الاشجار التي تتمايل فقد هبت رياح قوية مع امطار غزيرة ذكرتني ايضا يوم هبت عاصفة قوية قديما وهزت الاشجار حيث سقطت عواميد البريد والكهرباء وبعد يومين من ذلك الحادث ذهب اهالي بعقوبة يستفسرون من مدير البريد عما جرى ونسبة الاضرار في المدينة والهواتف . المدير الذي كان يسكن في بيت محاذي لدائرته وله ابنة اسمها سهام اذا لم تخونني ذاكرتي ولقبه على ما اظن (دايي) كنت ارى ابو نيسان اليهودي واخته السيدة فرحة التي كانت تعاني من مرض التوحد تقريبا لانها كانت تلبس العباءة وتجوب الشارع ذهابا وايابا دون هدف.
من المؤسف انهم كانوا عائلة معدمة وفي نفس الشارع كان البيت الذي تسكنه الملّة صبرية التي تقوم بتعليم الاطفال قراءة القران وللاسف لم اكن اذهب اليها كبقية صديقاتي لخوفي من فرحة اليهودية وايضا من السيد حميد الاعرج الذي كان يجلس على طرف المقهى والعكازة في حجره وقد هربت عدة مرات من امامه وذهبت الى دار السيد عبد الستار السراج الذي كان برتبة مقدم وكانت ابنته الست بدرهان شقيقتي بالرضاعة وهو والد الفنان سامي السراج ووالد الاستاذ صلاح وكان اكثر البنائين يجلسون في المقاهي واذكر منهم الاسطة صالح الذي كان مشهورا وقد ورث عنه ابناءه المهنة ومازالوا يمارسونها حتى وقتنا هذا . اخيرا عدت الى بيتي وانا اشاهد حديقتي وورودها الجميلة الزاهية لكي اتذكر واتذكر واتذكر حتى تعبت .
لكن الذكريات مُستمرة .