في آب/أغسطس الماضي كشف وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو عن محادثة قصيرة بينه وبين وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد . والشهر الذي تلاه جمع لقاء بين رئيس المخابرات التركي هاكان فيدان ونظيره السوري علي مملوك لقاء معلن سبقته لقاءات عدة خلال العام الماضي تقول مصادر صحفية إنها أربعة منها ما جرى في أنقرة وإسطنبول ومنها ما كان في دمشق ولم تُعلن في حينها لكن حديث الرئيس التركي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عن إمكانية عودة العلاقات التركية ـ السورية وعن دفعه لروسيا بمشروع آلية ثلاثية تجمع بلاده بالنظام السوري والصديق الروسي وحديثه عن ترتيب تلك الآلية وصولاً للتطبيع الكامل تبدأ الترتيبات بلقاءات بين رؤساء المخابرات تليها لقاءات وزراء الدفاع وتتبعها لقاءات لوزراء الخارجية وتنتهي بقمة . ولعلّ مِن هذه التراتبية يمكن فهم لقاء وزير الدفاع التركي بنظيره السوري في ضيافة نظيريهما الروسي في موسكو بعد أن عبر البلدان العتبة الأولى في لقاءات جمعت رؤساء المخابرات . بحسب البيان الصادر عن وزارة الدفاع الروسية فإن اللقاء تطرق إلى سبل حل الأزمة السورية وقضية اللاجئين والجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب وأكد البيان أن الأطراف المجتمعة اتفقت على استمرار الاجتماعات للعمل على تلك الأهداف . في وقفة مع البيان تجد إشكاليات أهمها تعريف الجماعات الإرهابية وهي مكمن الأزمة منذ سنوات على طاولة أستانا هذه الإشكاليات تكشف أهداف كل طرف من الفاعلين لذا فسنقف من خلال السطور القادمة على الفاعلين في الأزمة السورية والمعنيين بتلك الاجتماعات وما سيتبعه من تطبيع كامل ينتهي بلقاء الرئيس التركي برأس النظام في سوريا .
الفاعل الأول في الأزمة السورية هو النظام الذي سلّم نفسه بالكلية لموسكو ومن قبله لإيران نظام مأزوم سياسياً ومعزول دبلوماسياً ويعاني اقتصادياً ويبحث عن مخرج أو جسر يوصله بالمجمع الدولي لا سيما وأن الأمم المتحدة تضع آليتها من خلال جنيف لحلّ الأزمة وهو يشارك فيها وله في ذلك محددات قد تظهره بالمماطل لكنه محكوم في النهاية بكفيلَيه الروسي والإيراني . فالروسي مشغول بحربه في أوكرانيا ويريد فرض نفوذ في سوريا من دون أن يتحمّل أعباء والإيراني لم يكتفِ بما حصله من سوريا وفتح ممر له على البحر المتوسط عبر سوريا . وفرضه أخيراً شروطاً أقل ما توصف بالوصايا الكاملة على بشار ونظامه لذا يبحث بشار الذي ينتظر زيارة من ابراهيم رئيسي في الأيام القادمة عن ورقة يدفع بها تلك الوصايا ولعل تركيا تكون هي تلك الورقة .
الفاعل الثاني هو تركيا الجار المتأثر بالفوضى في سوريا بعد أن أصبحت الأفعى برأسين أحدهما في العراق بمسمى حزب العمال الكردستاني والأخرى في سوريا باسم قوات حماية الشعب الكردية . تسعى تركيا للحدّ من أنشطة هذه الجماعات المصنّفة إرهابية وتنتظر الفرصة لشن عملية عسكرية أُعلن العزم على بدئها في أي وقت لكنها تحتاج ترتيبات ولعل التحوّل الروسي عن قوات سوريا الديمقراطية أعطى تركيا الجرأة لخوض تجربة التطبيع مع النظام الذي تريد أن تستفيد منه في إبعاد الانفصاليين الأكراد عن أراضيها من دون الخوض في معارك لها تكاليفها لا شك كما أن الآلية الثلاثية هي ورقة يريدها الأتراك للجلوس مع أمريكا الداعم الأول للأكراد الانفصاليين في سوريا لا سيما وأن وزير الدفاع التركي صرّح الأسبوع الماضي أن أنقرة على تواصل مع موسكو من أجل فتح المجال الجوي السوري أمام مقاتلات بلاده ومن جهة أخرى فإن ما رشح عن بيان وزراء الدفاع الأخير يؤكد أن تركيا تبحث عن حلٍّ لأزمة اللاجئين السوريين على أراضيها قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة لِما تمثله من عبء على الحزب الحاكم والحديث فقط عن الاتفاق بعودتهم يرفع من أسهم الحزب في الشارع التركي فكيف لو تحوّل إلى حقيقة وهو بالمناسبة ليس سهلاً في الفترة المتبقية قبل الانتخابات .
الفاعل الثالث روسيا فاعل رئيسي في الأزمة السورية ويهمّها الظهور بمظهر المسيطر على الملف وهي كذلك حتى وهي في حربها مع الغرب كله بعد مغامرة أوكرانيا ولعلها تريد توجيه رسالة لواشنطن بأن وجودها في سوريا عبر قوات سوريا الديمقراطية هيّن بتفاهمات يمكن أن يُسمع صداها في أوكرانيا كما أن هدوء الجبهات في سوريا من خلال سيطرة تركيا على المعارضة يخفف عنها عبئاً حملته عن النظام في سوريا لسنوات وتريد أن تلتفت للنار المشتعلة على حدودها وتُنهي آثارها في أسرع وقت حتى لا تستنزفها . فمن المفهوم أن أحد أسباب اندلاع حرب أوكرانيا هو إيجاد بيدق متقدم للغرب يقابل التقدم الذي أحرزته روسيا باتجاه البحر المتوسط .
الفاعل الرابع والمهم هو إيران التي تقف ليس بعيداً عن هذه البقعة التي يريد الأتراك تأمينها إذ إن لعبها بورقة حزب العمال الكردستاني في العراق بتنسيقات أصبحت مكشوفة بين الميليشيات الموالية لها وتلك الميليشيات يؤكد انخراطها في هذا الاتفاق شاء الثلاثي الذي اجتمع أمس أم لم يشأ فهي تتقاطع في ذلك مع أمريكا التي تريد الضغط على تركيا الطامحة في قيادة المنطقة ومن ثم تقلل من سرعة العجلة الذاهبة لذلك ومن ناحية أخرى ترى إيران أن الآلية الثلاثية هي آلية استبعاد لها من الملف السوري رغم فاعليتها فيه سواء بالحرس الثوري أو بالميليشيات التي استدعتها من شتى بقاع الأرض والموالية لها ما يعني أن إيران ستمثل العامل المعطل لأهداف عملية التطبيع التركية–السورية .
الفاعل الخامس هو أمريكا التي دخلت سوريا بحجة محاربة الإرهاب أو تنظيم الدولة - الذي بالمناسبة أظنه سيظهر خلال الأيام القادمة فيما لو بدأت العملية العسكرية التركية على معاقل قوات سوريا الديمقراطية - واتخذت من قاعدة التنف المهمة محلاً للتمركز لتكون على مقربة من البيدق الروسي المتقدم في سوريا براً حيث لا ترى أن وجودها البحري كافٍ ولحماية القوات الكردية الانفصالية واللعب بها كورقة لتنصاع بها إدارة تركيا “غير المنصاعة” لتأمين الكيان المحتل في فلسطين من أي تهور للمعارضة السورية بزعم أنه قد يحدث وبالأساس تطمين تل أبيب من أن الوجود الإيراني في سوريا لن يؤثر على أمنها ومع ذلك تعطي الضوء الأخضر لطائرات تل أبيب بقصف مقار الميليشيات وإجهاض نقل السلاح في ممرات عبور السلاح للبنان والعراق وسوريا .
أما وإننا استعرضنا الفاعلين فالحديث عن المفعول بهم وأقصد المعارضة السورية والشعب السوري المقهور في مناطق سيطرة المعارضة أو في بلاد اللجوء سنفرض لهم مساحة في الجزء الثاني من هذا المقال .
ياسر عبد العزيز