هي دعوة أردت بها استثمار الحدث الجلل الذي ضرب تركيا فأثر على شقيقتها سوريا دعوة لمن ألقى السمع وهو شهيد على واحدة من أعظم الفواجع التي ضربت المنطقة منذ ما يزيد على 100 عام ولأن السمع هو جاسوس العقل ولأن العقل هو محل الإدراك كما أن الفؤاد -عند البعض- هو العقل ومن ثم محل الإدراك فإن الإدراك يحتاج لحواس منها خمس ظاهرة وخمس باطنة فأما الظاهرة فهي الحواس المعروفة وأما الباطنة وهي المخاطبة في هذا المقام فهي الخيال والتفكير والحفظ والتذكر والتوهم في عصر تُنقل فيه الأحداث رأي العين فإنّ الكارثة التي ألمّت بالشعبين التركي والسوري تحتاج للنظر بتفكر وتدبر وحفظ وتذكر فما أحوج الإنسان لخطاب البواطن في زمن جرفت فيه المادية المتوحشة المدفوعة بالنمط الاستهلاكي المشاعر لتأخذها إلى بحر الرغبات المادية الذي بشرت به الرأسمالية المتوحشة فحرفت البوصلة من عبادة الواحد القهار إلى عبادة الرغبات فاتُخذ الهوى إلها وطاف الناس حول الشهوة طواف العابد الطالب إنعام ربه بتلبية حاجته والفرق في ذلك كبير.
مشهد جوي من 6 أو 7 ثوان لطائرة مسيّرة يكفي لإدراك حجم الدمار الذي خلّفه زلزال كهرمان مرعش في 10 ولايات تركية وفي الشمال السوري المنكوب بالأساس هذا الركام الكبير الذي تشابه ليدع الحليم حيران وابن المكان تائها عن منزله يؤوي تحته قصصا إنسانية يحكي أصحابها بعضها ويحكيها عن أصحابها البعض فمنهم من قضى نحبه ومنهم من نجا لكن أصحاب الكاميرات ما فرّطوا في نقل تلك القصص فمشاهد الأطفال تحت الأنقاض وكلماتهم البريئة بعد خروجهم من تحت أسقف كانوا يستخدمونها في لحظة ما لتعليق بالوناتهم ابتهاجا بمرور عام على مولد أحدهم أصبحت ثقيلة على صدورهم تحول بينهم وبين الحياة . بعد أن توصلت فرق الإنقاذ لها بعد 61 ساعة تحت الأنقاض في كهرمان مرعش كانت أولى كلمات الطفلة زبيدة ابنة السنوات الثماني : "أخي بجواري أنقذوه قد يموت". في هاتاي وبعد 60 ساعة قضت الأقدار بأن يواجه الرضيع كريم صاحب العشرين يوما الحياة وحيدا بعد وفاة أمه، ولم يكن الرضيع محمد من كهرمان مرعش الذي يكبر كريم بأيام أكثر حظا من قرينه فقد اختار القدر أمه لتقضي وتتركه وحده ليخرج من تحت الأنقاض يمص إصبعه بعد أن افتقد ثدي أمه . جنوبا في الشمال السوري لم يكن الأطفال أكثر حظا من إخوانهم في تركيا فتلك الطفلة التي وضعت يدها على رأس أخيها لتحميه تعكس تلك الفطرة النقية حتى لو اختلفت الأرض والألسنة فالنبع واحد والمسقى واحد، والرضع الذين فقدوا أمهاتهم في سوريا تشابهت قصصهم بأقرانهم في تركيا وكأن القدر أراد إرسال رسالته لمن تنمر وتعنصر .
ولأن المشرب واحد فقد كانت لافتة صيحة "الله أكبر" التي انطلقت في تركيا مع اللحظات الأولى للزلزال من رجال الإنقاذ لتتشابه مع صيحات زملائهم في سوريا تلك الصيحة العفوية لها دلالاتها . وكما أن طلب ذلك المسن من تحت الأنقاض في الجنوب السوري ماءً ليتوضأ حتى لا تفوته الصلاة لها دلالاتها وإصرار المرأة التركية على عدم الخروج من تحت الأنقاض إلا بحجابها له دلالات وكما أن مشهد هرولة الأب نحو ابنه الذي يغرغر من أجل تلقينه الشهادة رغم هول المشهد وثقله على مشاعر أي أب له دلالة وفزعة الأتراك والسوريين والعرب والمسلمين لإنقاذ إخوانه في مصابهم واكتظاظ المطارات التركية بالشباب من أجل الذهاب إلى المناطق المنكوبة في تركيا ومطالبتهم بالدخول لسوريا وتبرع الكبار بالمال والمستلزمات الطبية مرورا بالأغطية والملابس وصولا إلى التبرع بالدم كل ذلك له دلالات لا يخطئها ذوو الألباب . كما أن إنكار الحديث الدعوي التقليدي في مثل هذه النوازل بأنه عقاب وتبديله بالحديث العقلاني بضرورة ترك ما يريبنا إلى ما ينفعنا ويدفع الهمم لإزالة أثار الأزمة فالحديث عن عقاب الله لعباده هو حديث الغيب أما الحديث عن رفع الهمم ودفع الهم هو حديث الحاضر الدافع وتحريض الناس على الدعاء ورفع أكف الضراعة في عموم الأمة الإسلامية له دلالة كما أن تصدير الفتوى بأن الزكاة تجب للمنكوبين في هذه الملمة بل حث الناس على إخراج زكاة سنة وسنتين عاجلتين لرفع البلاء عن المنكوبين له دلالة ودلالة كل ما تقدم أن الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا تزيح عن خطاب هذه الأمة بعض الركام الذي ران على عقول من تمسك بالنص، ولم يعمل العقل كما أن من دلالاته أن هذه الأمة مهما أصابها عدوها بسهام التفريق والخلاف فإن قلوبها تجتمع فلا تزال تلك القلوب مربوطة بقبلة واحدة وكتاب واحد وجمعة تجمعها ودم اختلط بتراب أقصاها وأدناها لحماية بيضة هذه الأمة فما كانت تداعيات هذه النكبة إلا رسالة خير بأن قلب هذه الأمة سيظل ينبض بالخير كما تنبض قلوب أعدائه بالشر أعداؤه الذين لم يتحركوا لإنقاذ المنكوبين رغم تشدقهم بالإنسانية متذرعين بسوء الأحوال الجوية أو جلوسهم لتقييم الأوضاع لإرسال الاحتياجات فالفارق بين قلوب هذه الأمة التي تحمل الخير للإنسانية والحاقدين الذين جلّ همهم استخدام البشر في خدمة أهوائهم هو أن الخير فيها إلى يوم الدين .
ياسر عبد العزيز