ثامر الحجامي
عظيمة كربلاء؛ تلك الملحمة الكبرى، بين الحق والباطل، ليس في شخوصها فحسب، إنما في قيمة الدروس والعبر التي تجلت في تلك المعركة، وجعلتها منارا يهتدي به اصحاب الحق، ومشعلا يستضيء به كل مظلوم، ليقف شامخا بوجه الباطل.
ترسخت معاني ملحمة كربلاء في وجدان شيعة اهل البيت عليهم، وصاروا يتوارثوها جيلا بعد جيل، رجلا كان أم إمراة، شابا أو كهلا، متعلما أو أميا، وأصبحت هي المدرسة التي يتعلمون منها الشجاعة والثبات على الحق، التضحية والإيثار، الصبر والصمود، وكل المعاني السامية، كان لها شاهد في تلك المعركة، ومنها صبر العقيلة زينب عليها السلام، وإيثار أم البنين عليها السلام، هذه الدروس التي كانت حاضرة في وجدان العمة أم قيس.
في إحدى قرى الشامية التابعة لمحافظة الديوانية، ولدت الحاجة أم قيس أربعينيات القرن الماضي، وهي حالها كحال النسوة في ذلك الوقت، لم تنل تعليما أو ترتاد مدرسة، إنما كانت تكسب تعلمها من حديث الأمهات، وطباع أهل القرية، تعلمت القوة والصلابة من إسلوب العيش وضنك الحياة التي كانت سائدة، تلفح وجهها الشمس في النهار، وتسهر مع النجوم في الليل، بإنتظار الساعة التي يخبرونها فيها أنه حان وقت زواجها، وهذا ما حدث حين تزوجت مبكرا مطلع عام 1960.
أنجبت أم قيس عشرة ابناء، أربعة ذكور وستة إناث، لم تكن حريصة على تعليمهم فقط، إنما كانت ترضعهم كل معاني الثورة الحسينية، وتجعلهم يتفاعلون مع شخصياتها، فكانت تحكي لهم بعفوية عن الإمام الحسين عليه السلام ووقوفه بوجه الظلم والطغيان، وغيرة أبي الفضل العباس وشجاعته في مقاتلة الجيوش، وصبر العقيلة زينب، وإيثار أم البنين، وتفاني الأصحاب في الدفاع عن العقيدة الحقة، فتجسدت هذا المعاني في وجدان الأبناء.
شب هؤلاء الفتية؛ وهم يشاهدون نظام البعث وحكم الطاغية يمارس شتى أنواع الظلم والجور، وجعل أيام العراقيين سوداء مظلمة، وجلاوزته يبطشون بالأبرياء في الشوارع، آذان تقص وألسنة تقطع، وزنزات السجون إزدحمت بالشباب، فكانت المعارضة لذلك النظام تغلي في العروق، والبحث عن وسيلة للإطاحة به لا تفارق تفكير الأحرار، ولكن يد البطش والإرهاب طالت علي أحد ابناء أم قيس، فإختفى عام 1986 وهو مازال طالبا في الإعدادية، ثم أعدم أبن أخيها أسامة اليتيم الذي ربته عام 1989 بسسب إشتراكه في محاولة إغتيال الطاغية في مدينة الفاو.
إستمرت محاولات النظام في مضايقة هذه العائلة، فمراقبة الاجهزة القمعية لا تنقطع عنهم، وتحسب عليهم الكلمة بل حتى النظرة، وجاء عام 1991 حين إختفى عبد الفتاح الإبن الآخر للعائلة، حين خرج من البيت ولم يعد، وبعد أيام جاء جلاوزة البعث ليخبروهم أن إبنهم هرب الى إيران، لتزداد محنة هذه العائلة بين الفقد والغياب ومحاسبة النظام الجائر الذي بات يكتم على أنفاسهم.
لم تتوقف محنة الحاجة أم قيس وعائلتها، ففي عام 1994 إعتقل النظام البائد إبنها الأكبر قيس، ليس لذنب إقترفه أو جريمة إرتبكها، وإنما من أجل التشفي بهذه العائلة، وبعد أشهر سلموه اليهم جثة هامدة، مخلوع الأظافر عليه آثار التعذيب، فأصرت على مرافقته الى المغتسل، وعند رؤيته أطلقت أم قيس صرخة قوية قالت فيها عبارة السيد زينب عليها السلام: " اللهم تقبل منا هذا القربان" لتؤكد معاني الصبر والصمود الحقيقي، بوجه جبروت البعث وأزلام النظام.
أمضت أم قيس سنوات وهي تنتظر أبنائها الذين إختفوا، وإنقطعت عنها أخبارهم لسبع عشرة سنة، لعل النظام يفرج عنهم أو تحصل على خبر منهم، حتى عام 2003 وسقوط النظام، عندما تم العثور على أوراق إعدامهم في محكمة الثورة بتهمة الإنتماء الى تنظيمات إرهابية، لتنتهي سنوات المحنة بفقد أم قيس لثلاثة من أبنائها وهم ما زالوا في ريعان شبابهم، لكنها بقيت صابرة محتسبة متأسية بأم البنين عليها السلام التي ضحت بأربعة من أولادها في معركة الطف.
في ليلة رأس السنة 2024 إنتقلت الحاجة أم قيس الى جوار ربها، حاملة معها هموما تهد الجبال، وتجاعيدا تحكي آلام السنين وظلم الطغاة، ومرارة فقدان الأحبة، وغابت مدرسة علمت من حولها الإباء والثبات والعزيمة، ومعاني الصبر التي تعلمتها من السيدة زينب والايثار والتضحية من أم البنين، رحلت العمة أم قيس محمولة على أكتاف محبيها، وهم يبكون ذلك الجبل الذي لم تهزه ريح الطغاة، رغم أساليب الظلم والجور التي مارسوها.
لقد كانت أم قيس ملهمة لمن حولها، مجسدة ببساطة معاني المرأة الصابرة التي تعلمت من مدرسة كربلاء، وطبقت تلك المعاني في حياتها، فنالها نصيب من تلك المواساة، لتكون القدوة كما كانت أم البنين لها قدوة وأسوة.