حينما تُصبح أفكارك قَدرك

أحد, 10/12/2025 - 18:55

محمود الجاف

في صمت الليل وحين ينام الجميع ولا يبقى مع الإنسان سوى صوته الداخلي . هناك حيث لا يشعر بك أحد، تدور أعظم المعارك .. بينك وبين نفسك. ذلك الصوت الخافت الذي تهمس به في قلبك :
 

"أنا لا أستطيع"، "لن أنجح"، "لا أحد يفهمني"، "أنا تافه" . أو ربما : 

" أنا قوي "، " سأنهض من جديد "، " ربي معي ولن يضيعني ".

 

هذا الصوت ليس مجرد كلمات .. بل هو البذور التي تُزرع في تربة القلب لتنمو وتُثمر: إما نورًا يشفيك أو ظلمة تُغرقك . فقد أصبح معروفًا في علم النفس أن الحديث الذاتي هو المُحرّك الأول للسلوك والمُحدد الأساسي للمشاعر والمصدر الخفي للإرادة أو الانكسار . لكن العجيب أن هذا الاكتشاف النفسي قد سبق إليه القرآن الكريم والسنة النبوية بدقة مدهشة، بل وقدم العلاج قبل أن تُعرَف الأعراض .

 

فهل آن الأوان أن تُنقذ نفسك؟

أن تُوقف هذا النزيف الداخلي من الأفكار القاتلة؟
أن تتعامل مع نفسك بلطف ورحمة وقوة؟

 

ما هو الحديث الذاتي؟ (Self-Talk)

هو ما يقوله الإنسان في نفسه، عن نفسه، ولِنفسه . وهو إمّا حديث إيجابي؛ يمنحك الأمل، العزم، الصبر، والوضوح . أو سلبي؛ يسرق منك الأمان، الثقة، والسكينة . وهو ليس مجرد أفكار عابرة . بل هو ما يصوغ شخصيتك ويحدد استجابتك للواقع . ففي المدارس النفسية الحديثة، مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، يُعتبر الحديث الذاتي أساسًا للشفاء أو المرض . لان العلم يقول ان أفكارك الداخلية تؤثر على كيمياء الدماغ . فإذا تحدثت مع نفسك بسلبية، يفرز دماغك هرمونات التوتر (الكورتيزول ) وإذا كان حديثك إيجابيًا ومطمئنًا، يفرز دماغك هرمونات الراحة مثل السيروتونين . إذا فطريقة كلامك مع نفسك قد تكون علاجًا أو سُمًّا .

 

هل يوجد الحديث الذاتي في القرآن الكريم ؟

نعم فالقرآن يُقرّ بوجود الحديث الذاتي :

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ غافر: 19 ..

إشارة إلى أن الله مطّلع على ما تخفيه نفسك من حديث داخلي.

 

وصاحب الجنتين وحديثه المتكبر:

﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ﴾ الكهف: 35

لاحظ ان المشار اليه في الألم يتكلم مع أحد، بل حدّث نفسه وكانت تلك الافكار بداية هلاكه .

 

كذلك حديث النفس في يوم الحساب :
﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ الطارق: 9

أي تُكشف أسرار النفس وحديثها.

 

الحديث الذاتي في السنة النبوية :

قال الرسول ﷺ: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" صحيح البخاري ومسلم . وهو توجيه نبوي يدل على أن الحديث الذاتي الطبيعي لا يُحاسَب عليه، لكنه أيضًا لا يجب أن يُهمل، لأنه يتحوّل إلى نية ثم إلى فعل .

 

كيف تُنقذ نفسك بنفسك؟ (علاج ذاتي بدون طبيب )

لمن يخجل أو يشعر أنه في بداية الطريق . فعليك بالمراقبة اليومية (Daily Check-in) كل ليلة، قبل النوم، اسأل نفسك :

ماذا قلت في قلبي اليوم عن نفسي؟

هل كنت قاسيًا عليها ؟ أم ساخرًا ؟ أم رحيمًا؟

 

مثال : قل بدلًا من : "أنا فاشل" "أنا تعثّرت، لكنني أتعلم ". هذا اسمه: تعديل الحديث الذاتي .

 

توكيدات ايمانية يومية (Affirmations Inspired by Faith) قل لنفسك كل يوم (بصوت مسموع أو داخلي )

"أنا عبدٌ لله، والله لا يضيع عباده." "ربي أرحم بي من نفسي، وسينجيني." "كل يوم هو فرصة جديدة لأكون أفضل." "الله معي، ولن أُخذل." والأفضل أن تكررها بعد الفجر أو قبل النوم .

 

كتابة الحديث الداخلي (Mind Dumping)

امسك ورقة واكتب ما يدور في داخلك مهما كان، ثم اقرأه وابدأ باستبدال السلبي بالإيجابي. وهذا تمرين نفسي معروف، يقلل من توتر الدماغ ويعزز التحكم في الذات . فضلا عن ذلك فإن تلاوة القرآن بصوت مسموع لنفسك تعدّ ذات فائدة عظيمة . اختر آيات الرحمة والثقة بالله . ثم اقرأها وكأن الله يُخاطبك شخصيًا ورددها كأنها جزء من حديثك الداخلي .

 

مثال :

 

﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾

 

الصحبة الداخلية الطيبة

كما تختار أصدقاءك، اختر "صوتك الداخلي "تخيّل أن حديثك الداخلي هو "شخص" يجلس معك كل يوم .. هل تريد أن يكون محبطًا دائمًا؟ أم طيبًا صبورًا حنونًا؟ قرر أن تكون "أنت" صديق نفسك.

 

كل ما تحتاجه لتبدأ التغيير . ليس عند الطبيب، ولا في كتاب، أو في دواء . إنه فيك. في تلك اللحظة التي تقرر فيها أن تكون رحيمًا بنفسك، أن تستبدل جلد الذات بمحبة الذات، واليأس بأمل في الله.

 

قال تعالى : ( 6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) الشمس :7- 9

 

فابدأ "تزكية نفسك" من هنا . من صوتك الداخلي .

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف