
يوسف السعدي
منذ إشراقة التاريخ، بدأ الإنسان رحلته نحو المجهول، باحثًا عن معرفة توسّع أفقه وتقرّبه من الآخر، حين سارت القوافل، وامتدت طرق التجارة، وعبَر الرحالة الصحارى والمحيطات، تعرّفت الحضارات بعضها على بعض، وتبادلت العلوم والفنون، فصنعت من تلاقيها نسيجًا مشتركًا للتاريخ الإنساني، لم يكن السفر ترفًا، بل كان فعلًا وجوديًا، منح الإنسان قدرة فهم ذاته من خلال تنوّع العالم المحيط به.
في كل انتقال، تتجدد التجربة، ويتسع الوعي، الرحلة تزرع في الإنسان فضيلة الإصغاء وتقبّل الاختلاف، وتعلّمه أنّ التنوّع ليس تهديدًا بل ثراءً يعمّق الفهم ويقوّي العلاقات بين الشعوب، من خلال التنقّل، تتكوّن ملامح ثقافة عالمية واحدة، تتجاوز الانتماءات الضيقة وتجمع القيم الإنسانية الكبرى، فالسفر لا يغيّر المكان فقط، بل يعيد ترتيب الأفكار ويهذّب النظرة إلى العالم.
اقتصاديًا، يشكّل السفر رافدًا محوريًا للتنمية، إذ تنشط من خلاله قطاعات متعددة، وتُفتح فرص العمل أمام الشباب، وتتحرك الاستثمارات عبر تواصل إنساني مباشر، كثير من المشاريع الكبرى بدأت من لقاء عابر بين ثقافتين، وكثير من الأفكار وُلدت من تجربة سفر غيّرت مسار أصحابها، أما التعليم، فيزدهر حين يتبادل الطلاب الخبرات في بيئات مختلفة، فيعودون حاملين أفكارًا وأساليب جديدة تدفع مجتمعاتهم نحو التطور.
لكن الخطر يكمن حين يُختزل السفر في نزوة استهلاكية، أو يُقيَّد بعراقيل تقتل جوهره الإنساني، فحين يُغلق الباب أمام التواصل، يبهت الجسر الذي ربط البشر عبر القرون، وتخسر الحضارات نافذتها نحو الفهم المتبادل، من هنا، يصبح الشعار نداءً صريحًا: لا تضيعوها. لا تهدروا هذه القيمة التي تحفظ للإنسان إنسانيته، ولا تجعلوا العبور امتيازًا لفئة محدودة، فالمجتمعات التي تشجّع الحركة والانفتاح، تبني مستقبلًا أكثر استقرارًا وازدهارًا.
إنّ السفر ليس مغادرة للمكان، بل عودة بالخبرة، وتجديد للرؤية، واكتشاف لذاتٍ أكثر وعيًا، كل خطوة نحو الآخر تضيف إلى رصيد الإنسانية، وكل تذكرة تحمل وعدًا بعالم أوسع وأرحب، فاحفظوا هذا الجسر مفتوحًا، لأنّ من يغلقه يعزل نفسه عن الحياة، لا تضيعوها.















