محمود الجاف
كأنَّ العراق اليوم يقف على حافة تأريخٍ مثقوب، يتسرّب منه الأمل كما يتسرّب الرمل من كفٍّ أرهقها الانتظار. شعبٌ أجهدته الوعود الكاذبة، وطبقة سياسية تتقاسم الخراب كما يتقاسم الشبعى ولائمهم، حتى بدا الوطن جثةً باردة تُنهش بلا حياء. يعود الفقير بخفّي الندم، لا بثمرة صبر ولا بظلّ عدل، محمّلًا بمرارة السؤال:
كيف سُرق الماضي؟ وكيف نُهب الحاضر؟
وكيف صار المستقبل سرابًا لا يخلّف إلا العطش والعجز؟
تشعر وكأن يدًا خفية اقتلعت شعبًا كاملًا من جذوره؛ فحُرِم من مقدّراته، ومُسحت ذاكرته، وصار يعيش على هامش الزمن لا في قلبه. تُستباح حقوقه أمام عينيه، وتُصاغ هويته بلغةٍ لا تشبهه، ويقف أمام غدٍ معتمٍ لا يملك أن يلمسه ولا أن يدافع عن مكانه فيه. تنتهي مسرحية الانتخابات كل دورة، فيلتقي الساسة في غرفٍ مغلقة يتقاسمون الثروة والنفوذ، ويخرج الشعب كما يخرج دائمًا بخفيّ حُنين .
ومع ذلك، ورغم كل ما جرى ويجري، ليست هذه الظلمة غريبة عن تأريخنا الروحي. فقد حُوصِر الرسول ﷺ يوم الخندق، والليل يطوّق المدينة من كل الجهات، والقلوب تبلغ الحناجر من شدة الخوف. لكن حين انشقّت الصخرة تحت ضربته، خرج صوته :
( أُوتيتُ مفاتيحَ كِسرى ). كان المشهد كلّه يقول: نهاية… لكن الضربة قالت: بداية.
وتكرّرت القصة بعد قرون في الأندلس. فحين سقطت طليطلة، ظنّ الناس أن شمس الإسلام قد غرُبت إلى الأبد، وأن الصفحة قد طُويت بلا رجعة. اليائسون ملأوا الطرقات، وملوك الطوائف غرقوا في صغائرهم تمامًا كما يغرق ساسة اليوم في اقتسام ما تبقّى من روح الوطن. لكن من قلب ذلك اليأس خرج فجر الزلاقة؛ المعركة التي تحوّل فيها الانكسار إلى قوة، والسقوط إلى انتفاضة، والذلّ إلى كرامة تُستعاد.
وهكذا يبدو العراق اليوم:
بلدٌ يقف على العتبة ذاتها التي يبدو فيها كل شيء ساقطًا؛ محاصرًا كما كانت المدينة، وممزقًا كما كانت الأندلس. غير أنّ التأريخ يهمس لأولئك الذين لا يسمعون في الظلام:
إن الأمم لا تُولَد في لحظات قوتها، بل في اللحظة التي تُكسر فيها حتى تعيد بناء نفسها من جراحها.
وإذا كان الرسول ﷺ قد رأى مفاتيح كسرى وهو محاصر، وإذا كانت الأندلس قد نهضت وهي تستعد للزوال، فلعلّ العراق رغم كل هذا التيه يخفي تحت أنقاضه صخرةً تنتظر ضربة، وشرارةً تنتظر من يشعلها، وفجرًا ينتظر من يقول له :
قم .
