سلام اوكرانيا.. بداية حرب النفط الاقتصادية

أربعاء, 11/26/2025 - 16:50

 

‏محمد النصراوي

‏حين يسقط آخر غلاف مدفعي على الجبهة الشرقية لأوكرانيا، ويُنفض غبار المعارك عن بدلات الجنود المنهكين في خنادق "دونباس"، يسود صمتٌ خادعٌ لا تسمعه الآذان البشرية، بل تلتقط ذبذباته العنيفة شاشات التداول في "وول ستريت" و"حي السيتي" اللندني.

‏فلحظة التوقيع على اتفاقيات السلام هناك، هي ذاتها لحظة إشعال فتيل الرعب الساخن في خزائن الدول التي أدمنت "أفيون" النفط باهظ الثمن، وعلى رأسها العراق.

‏مايجري لا يقتصر على مصافحات دبلوماسية في قاعات مكيفة، بل هو إعلان غير مكتوب عن عودة "الدب الروسي" بكامل ثقله إلى الأسواق العالمية، متحرراً من قيود العقوبات الخانقة أو حيل الالتفاف عليها، ليغرق السوق المتعطش أصلاً بتخمة من المعروض تُسقط فوراً "علاوة الحرب" التي عاشت عليها ميزانيات دول الريع لسنوات ثلاث، معلنة نهاية حقبة الوفرة المالية المؤقتة.

‏هنا تحديداً، في بغداد، حيث يتقاطع خط العرض الجيوسياسي مع خط الطول الاقتصادي بدموية، يبدأ المشهد الحقيقي للكارثة؛ العراق، الذي شيد قصوراً من رمال الموازنات الانفجارية الثلاثية على أساس سعر برميل "حربي" متضخم، سيجد نفسه عارياً أمام حقيقة "السوق الطبيعي"، تلك الحقيقة المرة التي تقول إن العالم لم يعد بحاجة لبرميل التسعين دولاراً لتدوير عجلاته الصناعية، وسرعان ما يتحول هذا الهبوط الدراماتيكي في الأسعار من مجرد رقم أحمر عابر في نشرة الأخبار الاقتصادية إلى سكين حاد يذبح الشريان الأبهر للاقتصاد العراقي الهش؛ فالدولة التي وسعت جهازها الإداري ليتحول إلى "ثقب اسود" وظيفي يلتهم أكثر من سبعين بالمائة من الواردات التشغيلية، ستواجه لحظة "الفطام القسري"، حيث تتبخر السيولة اللازمة لضمان السلم الأهلي عبر الرواتب، في ظل غياب تام لوسائد هوائية أو صناديق سيادية حقيقية تمتص الصدمة.

‏تبرز في هذا السياق المفارقة القاسية في المنطقة، فبينما ستشعر دول الخليج كالسعودية والإمارات بقرصة البرد الاقتصادي نتيجة تراجع العوائد، إلا أنها حصنت نفسها مسبقاً بمعاطف "الرؤى الاستراتيجية" وتنويع المحافظ الاستثمارية، لتبقى الأزمة لديهم مجرد تباطؤ نسبي في معدلات النمو يمكن السيطرة عليه، أما في العراق، فالأمر يتحول من أزمة مالية إلى شلل وجودي تام، واحتمالية عجز فعلي عن الإيفاء بالالتزامات الحاكمة، مما يستدعي شبح اضطرابات اجتماعية تتجاوز في قسوتها وعنفوانها ما شهدناه في تشرين، لأن الجوع والفقر كافران بالولاءات السياسية والمذهبية، وحينها لن تنفع الترقيعات المعتادة في سد الثقب المتسع في السفينة.

‏أمام هذا الطوفان القادم، لا يعود الحديث عن المعالجات تنظيراً فكرياً للنخب، بل هو عملية جراحية عاجلة لإنقاذ مريض يحتضر، تتطلب مشرطاً جريئاً يقطع دابر الاعتماد الكلي على الخام، الحل يكمن في تفعيل "اقتصاد الأزمة" عبر الاستثمار الفوري للغاز المصاحب المحروق هدراً وتحويل سحابة الدخان السوداء التي تخنق البصرة إلى عملة صعبة تملأ الخزينة، بالتوازي مع فرض نظام ضريبي ذكي وأتمتة صارمة للمنافذ الحدودية التي تضيع فيها المليارات داخل دهاليز الفساد المعتمة، والأهم من ذلك كله، البدء بفك ارتباط لقمة عيش المواطن بضرع الدولة الريعية عبر تحفيز قسري للقطاع الخاص المنتج لا المستهلك، وهي حلول تبدو مؤلمة لكنها أقل كلفة من الانهيار الشامل.

‏فهل تمتلك الطبقة السياسية الحالية، الغارقة حتى أذنيها في صراعات المحاصصة والنفوذ، الوقت أو شجاعة القرار لاستدراك ما فات قبل فوات الأوان؟ أم أننا نسير بعيون مفتوحة نحو الهاوية؟ فالنهاية هنا لا تكتبها الأقلام، بل تصيغها الأرقام الصماء التي لا تجامل، والتي تنبئنا بأن انتهاء الحرب هناك في الشمال البارد قد يكون، وللمفارقة التاريخية الساخرة، بداية لحرب وجودية هنا في الجنوب الدافئ؛ حربٌ لن تكون ذخيرتها الرصاص، بل رغيف الخبز والكرامة الضائعة في متاهات سوء الإدارة، فهل سنشهد انهيار الهيكل الريعي على رؤوس ساكنيه، أم أن الأقدار ستمنح هذا البلد فرصة أخيرة لالتقاط أنفاسه؟

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف