
محمد النصراوي
تحت سماء بغداد التي تلبدت بغيوم شتاء سياسي ثقيل، وبينما يواصل نهر دجلة جريانه الصامت شاهداً على عقود من الاضطراب، لا تنام أضواء المنطقة الخضراء؛ تلك البقعة المحصنة التي باتت تشبه جزيرة معزولة وسط محيط متلاطم من الترقب الشعبي والقلق الإقليمي، فخلف الجدران الخرسانية التي تحجب رؤية المواطن العادي، تدور رحى معركة صامتة لكنها الأشرس منذ سنوات، حيث يعاد رسم خرائط النفوذ وتُطبخ التحالفات على نار هادئة تارة، ومستعرة تارة أخرى، في مشهد يعكس عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام السياسي العراقي.
فالمتابع للمشهد يرى رقعة شطرنج معقدة، لا تتحرك فيها البيادق إلا بحسابات دقيقة تتجاوز الجغرافيا المحلية لتلامس خيوط اللعبة الدولية، وهنا، في صالونات بغداد السياسية، لم يعد الحديث مقتصراً على من سيحكم، بل على شكل "الدولة" التي ستنتجها هذه التوافقات العسيرة، خاصة وأن القوى التقليدية تجد نفسها اليوم أمام اختبار وجودي، فـ"الإطار التنسيقي"، تلك المظلة الشيعية الواسعة التي جمعت المتناقضات تحت هاجس الخوف من الإقصاء، يبدو اليوم وكأنه يواجه نفسه قبل أن يواجه خصومه، إذ لم تعد الوحدة التي أظهرها قادته في مواجهة "التيار الصدري" سابقاً بذات الصلابة؛ فهناك صراع خفي بين تيارين، تيار "الدولة" الذي يميل إلى تثبيت أركان حكومة محمد شياع السوداني ومنحها فرصة ثانية بوصفها "حكومة خدمات" نجحت في تبريد الشارع وخلق حالة من الاستقرار النسبي، وتيار "النفوذ العقائدي" الذي يرى في استمرار السوداني بصلاحيات واسعة تهديداً لزعامة "الآباء المؤسسين" للعملية السياسية، ويخشى من تحوله إلى رقم صعب يتجاوز مرجعياته الحزبية، وهذا التجاذب الداخلي داخل البيت الشيعي يلقي بظلاله الكثيفة على شكل الحكومة المقبلة.
فبقاء السوداني لم يعد مجرد خيار إداري، بل تحول إلى ورقة مساومة كبرى بين من يريد "مديراً تنفيذياً" ومن يريد "زعيماً سياسياً"، وبين هذا وذاك، يقف شبح "الحنانة" -مقر إقامة السيد مقتدى الصدر- كالحاضر الغائب، فالصمت المطبق الذي يلتزمه الصدر يُقرأ في أروقة الإطار على أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، مما يدفع عقلاء "الإطار" للتمسك بخيوط التهدئة وتجنب استفزاز الشارع الصدري عبر سيناريوهات إقصائية حادة.
وعلى الضفة الأخرى من النهر، لا يبدو المشهد السني والكردي أقل تعقيداً، بل هو انعكاس لمرآة مهشمة؛ فـ"البيت السني" الذي كان يبحث عن زعامة موحدة، بات اليوم يعيش حالة من التشظي غير المسبوق، حيث تحولت المطالب التاريخية للمكون السني من قضايا استراتيجية تتعلق بالمشاركة والتوازن، إلى صراع محموم على المناصب السيادية وعلى رأسها رئاسة البرلمان، هذا الصراع جعل من القوى السنية تبدو وكأنها "قوى وظيفية" تبحث عن شريك شيعي قوي يضمن لها الحصة الأكبر من الكعكة، دون أن تمتلك القدرة على فرض شروطها ككتلة موحدة، وهو ما يسهل على مفاوضي "الإطار التنسيقي" اللعب على هذه التناقضات، واستمالة أطراف سنية على حساب أخرى لضمان تمرير السيناريو الذي يفضلونه، أما في الشمال، حيث الجبال التي كانت دوماً ملاذاً للكرد، فإن الخلاف التاريخي بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني) قد وصل إلى مستويات جعلت من "أربيل" و"السليمانية" وكأنهما عاصمتان لكيانين منفصلين، فالاتحاد الوطني بات أقرب عضوياً إلى "الإطار التنسيقي" في بغداد، مشكلاً معه حلفاً استراتيجياً يحاصر نفوذ الحزب الديمقراطي الذي يجد نفسه مضطراً للبحث عن مخارج دبلوماسية تحفظ له ما تبقى من نفوذ في كركوك وبغداد، هذا الانقسام الكردي الحاد أضعف "الورقة الكردية" التي كانت في السابق "بيضة القبان" في تشكيل الحكومات، وجعل الكرد اليوم جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل، ومستهلكين للسيناريوهات التي تُطبخ في بغداد بدلاً من كونهم صانعين لها.
وفي وسط هذا التشابك المعقد، تبرز السيناريوهات المحتملة لمستقبل السلطة في العراق كمسارات ضبابية، لكن أكثرها واقعية يميل نحو "التسوية القلقة"، فالسيناريو الأول والأقرب للمنطق السياسي الحالي هو "تجديد الثقة المشروط" بحكومة السوداني أو حكومة مشابهة لها في النهج، ليس حباً في الاستقرار فحسب، بل لأن البدائل مكلفة جداً، فأي محاولة من صقور "الإطار" لفرض حكومة لون واحد ستؤدي حتماً إلى إشعال الشارع، وهو كابوس لا يرغب أحد في رؤيته، كما أن اللاعبين الدوليين، وتحديداً واشنطن وطهران، يبدوان في لحظة تقاطع مصالح نادرة تفضل "السكون" الحالي في العراق لتجنب أي انفجار قد يخلط أوراق المنطقة المشتعلة أصلاً، أما السيناريو الثاني، وهو سيناريو "الصدام والكسر"، فيفترض إصرار أحد أطراف الإطار على إزاحة السوداني والمجيء بشخصية "حزبية"، وهو سيناريو محفوف بالمخاطر قد يصاحبها ارتدادات "سنيةـ كردية" في البرلمان، ويبقى السيناريو الثالث الذي يعني العودة الى نقطة الصفر، وذلك بالبحث عن شخصية جديدة توافقية لتولي منصب رئيس الوزراء، وهذا قد يعني اشهراً من الشلل الحكومي وتوقف المشاريع وتعطل الموازنة.
إن ما يغيب عن طاولات المفاوضات الفخمة تلك، هو صوت المواطن العراقي البسيط، ذلك الذي يراقب مايجري بعين الريبة، فبينما يتحدث الساسة عن "الاستحقاق الانتخابي" و"التوازن المكوناتي"، يتحدث الشارع عن لغة أخرى تماماً؛ لغة الخدمات، وفرص العمل والكرامة والسيادة، فالهوة تتسع يوماً بعد يوم بين "عراق السلطة" الغارق في مفاوضات الاستحقاق المكوناتي، و"عراق الناس" الغارق في تحديات الحياة اليومية، وهو ما يجعل أي حكومة قادمة، مهما كان شكل تحالفاتها، حكومة تسير في حقل ألغام، فالشرعية لم تعد تُستمد من صناديق الاقتراع وحدها، بل من القدرة على الإنجاز وتلبية تطلعات جيل جديد لم يعد يؤمن بالشعارات الطائفية أو الوعود الحزبية.















