قبل عدة من الأيام, وجّهت لي دعوة من إحدى منظمات المجتمع المدني, وهو
مركز الرافدين للحوار, في بنايته القائمة في النجف الأشرف, لحضور ندوة
بعنوان "الحركة السياسية الاسلامية في العراق- الرؤية والتحديات" يلقيها
أحد القادة السياسيين, وهذه هي المرة الثانية التي يتم فيها دعوتي لحضور
مثل هذه الندوات في هذا المركز.
ويُعد مركز الرافدين من المراكز المهمة التي لها ثقلها وإحترامها في
الأوساط الإجتماعية والسياسية, حيث أنه سار بخطوات منهجية مدروسة من أجل
تطوير ذاته كمؤسسة مجتمع مدني, تحاول أن يكون لها ثقلها الداخلي كمجموعة
ضغط سياسية واقتصادية واجتماعية, وتحاول ان تكون (ولو مستقبلا) كعلبة
تفكير Think Tanks, تراقب الوضع السياسي والإقتصادي عن كثب, وتحاول أن
تجد أنساق علمية ومنهجية احترافية, تمثل أنماطا لحلول المشاكل الكثيرة
التي يمر بها البلد على صعيد الاقتصاد والسياسة, بل وحتى المشاكل
الإجتماعية.
الفكرة الرئيسية والأهم لهذا المركز, هو أنه يقوم وبطريقة علمية ذكية,
بممازجة النظرية مع الممارسة والتطبيق, حيث يقوم بإستدعاء السادة
المسؤولين في الدولة, من الذين يكونوا على تماس مباشر دوما مع المشاكل
الواقعية, والمعضلات المهنية, التي تواجههم أثناء سير عملهم, ومحاولة طرح
هذه المشاكل على طاولة التشريح والتفكيك, والاستعانة بعد ذلك بخبراء
مهنيين كل بإختصاصه, من أجل تشخيص مناطق العقد المستعصية, ومحاولة إعطاء
حلول مهنية تخصصية تمثل علاجات شافية لهذه المشاكل, أقول أن كل ذلك يعتبر
ويُعد من أروع المشاريع في أدبيات تطور الدول الحديثة, بل إن تعدد وكثرة
مثل هذه المراكز وتكرار مثل هذه التجربة العملية المحترفة, سيعتبر أولى
خطوات لتخليص هذا البلد من أنماط الأزمات التي يعيشها منذ سنين طويلة.
المحاضرة التي حضرتها تم إلقائها من قبل القيادي في حزب الدعوة الشيخ
عبد الحليم الزهيري, وهو من القياديين المتقدمين في حزب الدعوة , ويُعتبر
من الخط الثاني (تأريخيّا) بعد المؤسسين الأوائل, ومع أن عنوان الندوة
كان من المفترض أن يكون الحديث فيه من قبل الضيف العزيز, عن تأريخ حركة
الأحزاب السياسية الإسلامية في العراق, بشكل خاص, وتأريخ الإسلام السياسي
الشيعي بشكل عام, إلا اننا تفاجئنا بأن الضيف العزيز قد خصص جل الندوة من
أجل تصدير تأريخ حزب الدعوة حصرا!
محاضرة الشيخ تم التركيز فيها على التأريخ التأسيس الأول للحزب, وهو
أمر معتاد من قادة الحزب الكرام, لأنهم يتعكزون به ويحاولون تهيئة ذهن
المتلقي بذكر أسماء لامعة وكبيرة ولها تأثير في النفوس, ومع ذلك, فحتى
هذا التأريخ كان معروفا لكل أو لأغلب الحاضرين للندوة, كونهم من أبناء
النجف, والبعض منهم كان موجودا في ذلك الزمن, على أية حال, ما لاحظته في
الندوة هو هروب الشيخ العزيز من أي طرح يتعلق بمتبنيات الحزب في الفترة
الراهنة المعاصرة, وهي الفترة التي كان من المفترض أن تكون مناط الإهتمام
في الندوة, لأنها الفترة التي خرج الحزب فيها من كهنوته المثالي, إلى
جنته الواقعية التي كان يعد الناس بها.
لم يطرح الشيخ ماهية أيدلوجية الحزب المعاصرة, بعد التغييرات الحاصلة
والمستجدات السياسية والاجتماعية, لم يُبين ما هو الفكر السياسي الإسلامي
المعاصر الذي يتبناه الحزب في الفترة الراهنة, وما هي أدوات الإشتغال
الإقناعية والتوعية التي يمكن له أن يستثمرها من أجل أن يكون عامل جذب.
تناقضات كثيرة وقع بها الشيخ في ندوته, فمرة يقول أن الحزب تأسس
إستجابة لظرف راهن كان الإسلام الشيعي يحاول أن يثبت وجوده أولا, ويدافع
عن نفسه أمام هجمة الغرب ثانيا, ومن ثم يرجع ويناقض نفسه ويقول بأننا
حاولنا أن نستفيد من علوم الغرب الغير عقائدية! وهو غافل أو قد تغافل عن
أن العلوم التي يتحدث عنها لدى الغرب, ما هي إلى إنطلاقات جديدة للفكر
والوعي الغربي (العقائدي تحديدا), بعد أن أبدل أيديولوجياته المنحرفة,
بأخرى جعلت الإنسان هو مناط الإحترام والتقديس.
لم يُجب الضيف عن الكثير من الأسئلة, والسؤال المهم والراهن الذي
طرحته عليه: ما هو رأي الحزب منذ تأسيسه وإلى الآن بدور أو حضور رجل
الدين في السلطة؟ فلم يجبني, بل اكتفى برد غريب ذكر فيه بأن الحزب أيام
تأسيسه لم يكن يملك اجابة عن تلك الأسئلة العالية! بل كانوا مجرد مجموعة
من الشباب حاولوا رد الهجمة الغربية !! مع انه في بداية اللقاء حاول أن
يصعد من شأن الشهيد السيد محمد باقر الصدر إلى السماء, وجعله المفكر
الأول الذي استقى الغرب منه أفكاره !!! وعند انتهاء اللقاء ونزل سماحته
من المنصة, همست في أذنه قائلا : ثبت لي من كلامكم سماحة الشيخ, أن حزب
الدعوة مع تأريخه العتيد, إلا أنه لم يكن يملك أية نظرية سياسية متكاملة
للحكم !!
من جانب ثاني, كانت هناك ملاحظة أو مؤاخذة أخذتها على المركز مع
الأسف, وهي ضبابية دور الضيوف الحاضرين للندوة, فصراحة لا أعلم لماذا
تُرسل إدارة المركز بطلب حضور الضيوف الكرام, وهم من النخب النجفية
المعروفة بثقافتها ورصانتها العلمية والفكرية والأدبية, وتهيئة أماكن
خاصة لهم للجلوس والإنصات ! هل أن دور النخب في مثل هذه الندوات هو
الإنصات ؟ وهل أن المشاكل التي يتناولها المركز ويحاول أن يؤصل الحلول
لها تكون من خلال صمت هذه النخب ؟ ألا يجب أن يكون دور النخب عند
استدعائها هو توظيف ما لديها من خبرات وإمكانات مهنية أو فكرية لتعين
المركز على إيجاد الحلول؟
أعتقد جازما بأن استدعاء أية طبقة نخبوية لحضور مثل هذه الندوات, يجب
أن يكون قائما على مبدأ محاولة الإستفادة القصوى من هذه النخب, ومحاولة
إشراكها بورشة عمل مصغرة يحاول المركز أن يستحصل منهم عصارة ما لديهم من
خبرات اجتماعية أو علمية أو اقتصادية, أو على الأقل , ليكون المركز على
تماس مباشر مع مشاكل المجتمع التي يحاول أن يجد حلولها في ثغرات العمل
السياسي.
*دكتوراه في النظرية السياسية- المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.
د.محمد أبو النواعير*