يعيش العراق مرحلة استثنائية لا تمر بها أغلب الشعوب على وجه الأرض,
فمن تسلط الظالمين, إلى حروب عبثية, تبعها عمليات تفريغ البلد من أهم
عقوله العلمية والأكاديمية, إلى تناحر الطوائف والمذاهب (تناحرا اجتماعيا
وعقائديا عسكريا), إلى سيطرة الدول الخارجية على مقدرات الأمة العراقية
من جميع النواحي, حتى بات تدخل هذه الدول مباحا حتى في مجال مناهج
التعليم والتربية وأدوات الضخ الثقافي, والسيطرة على أدوات التلاعب
بالعقول والإعلام ومخرجات عمليات التثقيف الطبيعي التي تحصل في أي بلد.
لقد كان العراق من بين الدول المتقدمة في مستواها الثقافي والعلمي
خلال العقود التي تلت تأسيس الدولة العراقية في القرن السابق, حيث كان
التعليم الأولي والجامعي, يسير بخطوات ومنهجيات ثابتة وراسخة بدقتها
واحترافيتها العالمية, كما أن موائمة السلم المجتمعي في تلك الفترات, مع
عمليات التعليم والتثقيف, ساعدت على التأسيس لبنى ومؤسسات ثقافية
وتعليمية رصينة ومحترمة, ساهمت في إيجاد منظومة تنشئة مجتمعية وثقافية
مهمة, جعلت هذا البلد في مقدمة الدول الناهضة والسائرة نحو التحضر.
مدخلات العملية الثقافية في أي بلد, تتعلق بعوامل عدة, منها ما هو
مجتمعي, ومنها ما هو علمي احترافي, عدم استقرار البنية السياسية والأمنية
في العراق, مع حصول اهتزازات عميقة في العلاقات المجتمعية, والتي قادت
إلى حصول قطيعة مصطنعة بين كيانات الشعب, مع ضعف ورداءة المنتج القيادي
في كل مجالات إدارة الدولة, وأهمها المجال السياسي, والذي تلاعبت به
مقدرات الجهل والمحسوبية والعلاقات القبلية وصراع الإرادات المتنافسة؛ كل
ذلك قاد إلى حصول شرخ كبير في عمليات التثقيف المجتمعي, مما قاد إلى حصول
انحدار كبير في مستوى الثقافة لدى الفرد العراقي, وباتت القراءة أمرا
نشازا في نظر الوعي المجتمعي, لا يتعلق إلا بطبقة محددة منزوية في
أنماطها المثالية البعيدة عن واقعية الحياة!
هذه النظرة المجتمعية الجاهلة, تمثل جريمة كبيرة ترتكب بحق هذا البلد,
وتخريب غبي من قبل كل الجهات المسؤولة, لأهم أداة من أدوات نهضة البلدان
وتطورها, حيث أنها قادت عملية الدراسة والتعليم, لجعلها عبارة عن مرحلة
عبور يمكن الخلاص منها بشتى الطرق الملتوية, بدل أن تكون مرحلة تأسيس
وترصين للوعي المجتمعي الثقافي والتربوي, والذي يقود لمخرجات سلوكية
مستقبلية, تعمل كعوامل نهضة حقيقية.
النتيجة : البلد الذي تُسلب منه أدواته التثقيفية والتربوية والعلمية,
هو بلد يعيش مرحلة الإنعاش, وسيقف في فترات مقبلة على حافة تأريخ, يتغذى
بعوامل الفشل والانهيارات بشكل تدريجي, ليضمن لسالبيه, إبقائه ضعيفا
جاهلا مقطوعا عن أسباب التقدم والقوة والنهوض.
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية في السياسة.
د.محمد أبو النواعير*