بات مما لاشك فيه أن وجود ضبابية في مفهوم المواطنة, لدى الأفراد
والجماعات السياسية في العراق, قادت إلى حصول شرخ كبير في العملية
السياسية, شرخ غير واضح في ملامحه ومميزاته, خاصة في بلد عاش قرون طويلة
في مرتع خصب للفكر الاستبدادي الديكتاتوري الأحادي, حتى باتت الأحادية
والنظرة السياسية الضيقة, من أسس الثقافة الجماهيرية العامة في هذا
البلد, وهذا قاد إلى ان تتحول الديمقراطية إلى هجين غريب يصعب التعامل مع
أدواته بشكل كامل, ما نتج عنه أنساق سياسية غير صحيحة, وشخصيات غير كفوءة
في إدارة الدولة.
أجواء الديمقراطية الصحيحة تستلزم حضور مفهوم المواطنة, مفهوم
المواطنة يستلزم أيضا توفر أدنى مستوى من قبول التنوع العرقي والطائفي,
والقبول المقصود به هنا أنواع مختلفة: منها القبول الديني والإثني,
والقبول في التساوي في توزيع مداخيل الناتج الاقتصادي, واهمها كلها هو
القبول بالشراكة السياسية؛ ويأتي مفهوم القبول بالشراكة السياسية من
منطلق تبني فلسفة القبول بالمشتركات, وتحييد أو إغلاق موارد الإختلاف.
يأتي تيار الحكمة الوطني الذي تم تأسيسه من قبل السيد عمار الحكيم,
كحركة في ظاهرها هي سياسية, ولكنها تعمل وبشكل هادئ في بواطن ممارساتها
وسلوكياتها, على خلق اجواء يتم من خلالها تحقيق مفهوم الإندماج بين
المكونات الاجتماعية في الخطاب السياسي, فقد نجح الفكر السياسي لتيار
الحكمة, في رفع كل الحواجز التي كانت تقف عقبة, في التأسيس لخطاب وطني
منفتح على كل المكونات, والشراكات الإثنية والدينية والمذهبية, بل وحاولت
أسس هذا الفكر, عبور مرحلة التمترس الحزبي (أي التقوقع داخل خطاب حزبي
تياري داخلي فقط), فأصبح خطاب تيار الحكمة خطابا موجهاً نحو عموم الشعب,
وهذه بادرة يمكن عدها الأولى من نوعها في هذا البلد, الذي أثقلت نواة
تفكيره المجتمعي والسياسي والديني, عوامل القطيعة والتنافر وعدم الثقة.
المواطنة الناجحة في العملية السياسية لأي بلد, يقصد منها المواطنة
التي تقوم على تبني وعي سياسي لدى الأفراد في الانتخابات, يقودهم للإيمان
بأنهم هم من يصنع الحكومة, وأجهزتها الإدارية, الوعي بهذه المهمة, تستوجب
من الأفراد حرصا كبيرا, على أن يكون الصالح العام وحسن الاختيار, وانتقاء
المرشحين والكيانات السياسية بناءا على النزاهة والتأريخ والخبرة
والكفاءة, من المميزات المهمة التي يجب توافرها في عملية انتخاب صحيحة؛
روح المواطنة هنا هي التي ستكون الفيصل المهم والوحيد في تصحيح أو تهديم
مسارات العمل السياسي.
لا انكر أن عملية الإختيار ستكون صعبة على الناخب العراقي, فعوامل
الإخفاق كانت كثيرة (وإن لم تكن الأكثر), وتصدير الفشل إلى وعي المواطن
الناخب, جعله يرى الصورة بشكل سوداوي لا أمل فيه؛ صعوبة إختراق حاجز (عدم
الثقة) الذي بات فاصلا قويا بين المواطن الناخب وبين العملية السياسية,
أمر ينذر بكارثة للديمقراطية في العراق, ولا يعي أغلب المواطنين أن
مشاركتهم في الانتخابات, هي الفيصل الوحيد والمهم, الذي يحمي هذا البلد
من الوقوع في فتن داخلية وعمليات اقتتال وحروب على السلطة, لا يسلم منها
أخضر ولا يابس.
لا أقول أن تيار الحكمة هو سفينة النجاة الوحيدة, ولكن من يبحث عن
أمل, فأنا أعتقد بأن تيار الحكمة الوطني, بقياداته الشابة, وتأريخه
النضالي الذي حقق له تراكم خبرات سياسية كبيرة, ومبدئيته التي لم يحد
عنها يوما, خاصة وقد جربه العراقيين يوم رفض المناصب العليا في مقابل أن
يبيع نفسه لخارج الحدود, ستؤهله للنجاح في تحقيق عملية بناء صحيحة, ولا
ننسى ما يتمتع به الآن بقوة وصراحة من وطنية عالية ضربت أرقى أنواع
القبول للآخر, حتى باتت مكاتب تيار الحكمة تنتشر في كل أو الأغلب من
محافظات العراق الحبيب.
وأخيرا: ما يثير الإنتباه أن تيار الحكمة ومن خلال تأريخه السياسي
(بمسمياته السابقة), لم يقدم يوما وعودا عالية, أو على الأقل فيما يتعلق
ببرنامجه الإنتخابي, فقد تميز دوما بالوضوح والبساطة, وواقعية الدراسات
المسحية والعلمية التي يقوم بها خلال السنين الأربع ما قبل أي انتخابات,
يمكنه من تشخيص أهم المشاكل التي يمكن ومن خلال ما تتوفر عليه سقوف
العملية السياسية, من تقديمه لحلول يستطيع الإيفاء بالتزاماتها, وهذه
النقطة تمثل مصداقية عالية لهذا التيار يفتقر لها غيره, حيث يمكن لنا أن
نتأمل منه خيرا.
د. محمد أبو النواعير
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.