ربما لم يكن مستغربًا، الهجوم الحكومي الذي يتعرض له مؤخرًا قيادات التيار السلفي المدخلي في الجزائر، على خلفية فتاوى وتصريحات مثيرة، رغم أن بعضها يخدم السلطة بشكل مباشر.
هذا الظهور اللافت للتيار وأتباعه على سطح الأحداث في البلاد، أعاد إلى الواجهة الجدل المحتدم حول فكر المداخلة، وما قد يمثله من اختراق سعودي للجزائر، على غرار تجارب أخرى في دول مجاورة.
حكاية “سنيقرة” و”فركوس”
وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري “محمد عيسى” شن هجومًا ضاريًا على التيار المدخلي في بلاده، ردًّا على فتوى أحد رموز التيار بعدم جواز حملات مقاطعة شراء السيارات التي انتشرت في الفترة الأخيرة.
الوزير أكد أن “هذا التوجه (المدخلي) تم رصده من قبل أجهزة الدولة على أنه ليس اختيارًا فكريًّا ولا مذهبًا دينيًّا، بل هو تنظيم متشدد يعطي لنفسه حق تعيين قادته في الجزائر(من الخارج)”.
وبحسب “عيسى”، فقد تم شطب صاحب تلك الفتوى، ويدعى “لزهر سنيقرة” من قائمة أئمة الجزائر، قائلا: “لأن أئمتنا ومساجدنا لا يرتادها إلا الأئمة الذين يؤمنون بمرجعيتنا الوسطية المعتدلة، ولا يأتمرون بأوامر من الخارج”.
وعن الفتوى المثيرة للجدل بشأن حملة “خليها تصدي” الخاصة بمقاطعة شراء السيارات، علق الوزير: “كل ما يقوله هو في نظري ترهات لا تعني الأئمة ولا المساجد ولا ترقى لأن تكون فتوى؛ لأن الفتوى لا تكون إلا من كفء ولو كان كفئًا لكان إمامًا معنا في مساجدنا”.
الهجوم الحكومي على الفتوى يأتي رغم أن صاحبها أراد تقديم خدمة للسلطات الجزائرية من المنطلق المدخلي (طاعة ولي الأمر)، على اعتبار أن السلطات منزعجة من هذه الحملة، وتردد اعتقال من بادر بها على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا الجدل يأتي بعد نحو شهر على فتوى أخرى لزعيم التيار في الجزائر “محمد فركوس” أخرج فيها غالبية الشعب الجزائري من أهل السنة؛ باعتباره أن الإخوان والصوفية والأشاعرة خارجون عن أهل السنة والجماعة.
وحسب ما ورد في كلمة “فركوس”، فإن “الإسلام الذي يمثله أهل السنة والجماعة – أتباع السلف الصالح – إنما هو الإسلام المصفّى من رواسب العقائد الجاهلية القديمة، والمبرأ من الآراء الخاطئة المخالفة للكتاب والسنة”.
“فركوس” الذي استقال العام الماضي من مجمع “دار الفضيلة”، التي يؤطرها التيار المدخلي في الجزائر، تلقى رسائل دعم متوالية من مؤسس وزعيم التيار السعودي “ربيع المدخلي” آخرها تلك الرسالة التي زكى بها “فركوس” معتبرًا إياه “رأسَ وشيخَ الدعوة السلفية في الجزائر”، داعيًا أنصار التيار المدخلي لاتباعه.
ويظل الرجل أحد الشخصيات الدينية الجزائرية المثيرة للجدل في السنوات الماضية؛ فهو الذي اشتهر بفتاواه المثيرة للجدل، مثل: المظاهرات والإضرابات حرام، وثورات الربيع العربي غزو فكري، وزواج المسيار جائز، والمجالس المنتخبة مخالفة للدين؛ لأنها اشتراك في الحاكمية مع الله، وغيرها.
غزو سعودي للجزائر
ولعل الإشارات التي تضمنتها كلمة الوزير الجزائري، وألمحت إلى تدخل خارجي في تعيين قادة التيار المدخلي بالجزائر، وائتمار الداخل بأوامر خارجية، لا تخرج عن كونها اتهامات مبطنة للسعودية التي تؤوي زعيمَ ومؤسسَ التيار الأكاديمي البارز “ربيع المدخلي”.
تلك الاتهامات التي راجت في الفترة الأخيرة، ونفاها الوزير ذاته قبل أقل من شهر، حين برّأ ساحة المملكة من “التدخل الديني” في بلاده بواسطة “التيار المدخلي”، الذي يحوز على أتباع كثر في الجزائر.
واعتبر “عيسى”، أن بلاده “ليس لديها مشكلة مع المذهب السائد في السعودية، ولا يشكل خطرًا على البلاد”، قائلًا: “العدو الوحيد يكمن في الشحن الطائفي، الذي يقصي طوائف أخرى ويخرجها من الدين”، في إشارة لفتوى “فركوس”.
وعقب فتوى “أهل الأهواء” لفركوس قال الوزير الجزائري، إن مدرسة السلفية التي ينتمي إليها “فركوس”، “أعلنت منذ أيام عن فكر إقصائي، تختزل من خلاله الانتماء للسنة والجماعة في مجموعتها فقط، مُخرجةً أغلب الأمة من دائرة الانتماء للسنة والجماعة”.
واعتبرت وسائل إعلام حينها، أن الوزير “هاجم السعودية بحديثه عن المرجعية الدينية الوطنية”، خاصة عندما شدد على أن “الدولة ستتولى مواجهة هذه الأفكار المنحرفة، وسيتم تطبيق القانون على أصحابها”.
هذه الاتهامات الموجهة للسعودية بمحاولة الغزو الديني للجزائر، ربما يعضدها تدخلات أخرى في دول مجاورة لبلد المليون شهيد، ولعل أبرزها الساحة الليبية التي تشهد محاولات سعودية دؤوبة لترسيخ نفوذها في البلاد تحت لافتة التيار المدخلي.
ففي فبراير الماضي، أثار فيديو لداعية ليبي يحرض قوات الجنرال خليفة حفتر على اقتحام مدينة “درنة”، ويهدد أهل المدينة بالقتل، موجة كبيرة من الجدل في كل من ليبيا والسعودية التي يقيم بها الداعية منذ سنوات.
وبثت صفحة تدعى “غرفة عمليات سرية شهداء عين مارة”، التابعة لقوات حفتر تسجيلًا مصورًا للداعية السلفي “أبو عبدالرحمن المكي” على مشارف مدينة درنة، حيث حث قوات حفتر (التي قال إنها تجاهد في سبيل الله) على اقتحام المدينة، وشبّه أهل درنة بالخوارج وهددهم بالقتل إذا لم يسلموا أسلحتهم ويغادروا المدينة.
وحول شخصية الداعية المثير للجدل، نقلت تقارير إعلامية عن الكاتب “محمود الغرياني” قوله: “الهيكل ليبي، والمحرك سعودي، هذا المدعو أبو عبدالرحمن المكي ليبي الجنسية من الشرق، كان يعيش بالسعودية، ورجع مؤخرًا لدعم “حفتر” باستصدار الفتاوى الخاصة لنصرة الكرامة (مسمى أطلقه “حفتر” على انقلابه الذي بدأ 2014)، مقرب من الدائرة الأولى لربيع المدخلي. معروف عنه التشدد والتطرف والغلو”.
يأتي هذا التطور اللافت، بعد نحو 3 أشهر من تقارير متواترة، أكدت أن السعودية بدأت في التدريب العسكري لشباب ليبيين من أتباع التيار السلفي المدخلي داخل أراضيها.
وأفادت مصادر أن الشباب يذهبون دفعات تحت غطاء شركات سياحية تمنحهم تأشيرات لأداء العمرة، إلا أن الغرض الأساسي منها هو حضور تلك التدريبات العسكرية التي تشرف عليها السعودية.
منبع المداخلة وقوة السعودية الناعمة
يرجع كثير من الباحثين بداية الظهور العلني لتيار المداخلة في المملكة العربية السعودية إبان حرب الخليج الثانية عام 1991، التي كانت نتيجة لغزو العراق تحت حكم صدام حسين للكويت، ونشأت المدخلية المقترنة بما يسمى “الجامية” في المدينة المنورة علي يد الشيخ محمد أمان الجامي الهرري الحبشي، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي، أستاذ الحديث بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، فالأول مختص في العقيدة، والثاني مختص بالحديث.
برز تواجدهم عى سطح الأحداث كفكر مضاد للعلماء الذين استنكروا دخول القوات الأجنبية إلى الخليج، وأيضًا كانوا في مقابل هيئة كبار العلماء، التي رأت في دخول القوات الأجنبية مصلحة، إلا أنها لم تجرم من حرَّم دخولها، أو تنكر ذلك، فجاء “المداخلة” أو “الجامية” واعتزلوا كلا الطرفين، وأنشأوا فكرًا خليطًا، يقوم على القول بمشروعية دخول القوات الأجنبية، وفي المقابل يقف موقف المعادي لمن يحرّم دخولها، أو أنكر على الدولة ذلك.
المنتمون لهذا التيار، يقومون وفق ما تشير إليه بعض الدراسات، بالبحث في أشرطة وتسجيلات العلماء والدعاة، ويتصيدون المتشابه من كلامهم وما يحتمل الوجه والوجهين، ثم يجمعون ذلك في نسق واحد، ويشهرون بالشخصية المستهدفة، محاولين بذلك إسقاطها وهدرها.
ويخوض أتباع هذا التيار، الذين يسمون في السعودية بـ”أتباع الجامية” معارك فكرية ضارية مع كل العلماء والمشايخ، يحاولون خلالها فقط أن يتصيدوا أخطاء هؤلاء، وتوفر لهم وسائل التواصل الاجتماعي بوقًا لنشر أفكارهم وحصائد حملاتهم التي تكون ممنهجة في غالب الأحيان، خاصة ضد من ينتمون لحركة “الصحوة” التي انبثقت فكريًّا وليس تنظيميًّا من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وفي مقدمة أتباعها الدكتور سلمان العودة، وعلي العمري، وناصر العمر، وغيرهم.
كما يتمتعون -على عكس غيرهم- بعلاقات قوية مع حكومة المملكة، خاصة مع اشتعال الأوضاع في دول الربيع العربي عام 2011، مؤخرًا، كان مؤشر يدل بقوة على متانة تلك العلاقة، متمثلًا في إعلان “محمد بن سلمان” سبتمبر الماضي، تكفله بعلاج “ربيع المدخلي”، بعدما ساءت حالته الصحية، ووجه بنقله إلى إحدى المستشفيات لتلقي العلاج على النفقة الخاصة للأمير.
وخلصت دراسة نشرها مؤخرًا مركز “رؤيا للبحوث والدراسات”، إلى أن نفوذ التيار المدخلي المسلح يتنامى في كل من اليمن وليبيا، بصورة مفاجئة بشأن التيار الذي انشغل دومًا بالتثبيت السلمي والفكري لسلطة ولاة الأمور، وبالهجوم على الجماعات والرموز الإسلامية المعارضة سياسيًّا للأنظمة.
ووفق الدراسة، يُستخدم التيار المدخلي بوضوح تام حاليًا لتأدية دور وظيفي خليجي في كل من اليمن وليبيا؛ ففي اليمن يعمل التيار على الحد من النفوذ الإيراني، وفي الوقت نفسه يعمل على تقليم أظافر المعارضين السنة، تارة بالوجود على الأرض وملء الساحة حتى لا يتزايد نفوذ الحركات السنية المعارضة، وتارة باغتيال المعارضين الإسلاميين لمشروع التحالف العربي في اليمن