لابد لنا من القول ابتدءا, إن المشهد السياسي العراقي, قبل وبعد
الانتخابات الأخيرة في 2018, تحكمت به وفيه العديد من العوامل والمؤثرات,
وأنماط مختلفة ومتشعبة من الصراعات, وامتدادات متقاربة ومتباعدة من
التوجهات والأيديولوجيات, داخلية وخارجية- إقليمية ودولية.
يمكننا حصر هذه العوامل بعدد من الأنماط التي تعودناها في أدبيات
الصراع السياسي العراقي, فمنها ما كان يمثل غايات مصلحية برغماتية,
تعودنا وجودها لدى الكثير من الأطراف السياسية العراقية المشاركة في
الحياة السياسية, وغالبا ما يتميز هذا النوع منها بأن أدواته التنافسية
والصراعية, عبارة عن استغلال لأي نقطة لتسقيط المنافسين وضربهم, من أجل :
إما تحقيق التفرد في التنافس, وإما التسبب بخسارة المنافس كي تكون
الخسارة مشتركة !
النمط الآخر من أنماط الصراع والتنافس, مبني على مبدأ الأحقية
الموهومة ! وهو اعتقاد بعض الأحزاب والشخصيات السياسية, بأن تقادم وجودهم
في العمل السياسي قبل 2003 وبعدها, يتيح لهم البقاء دوما وأبدا متصدرين
للعمل السياسي, فيرفضون أي نتيجة انتخابية أو إعلامية أو سياسية (ممثلة
بإرادة شعب) تقصيهم من العملية السياسية, مهما كانت درجة عطائهم أو فشلهم
في إدارة الملفات المناطة بهم, فهم يعتبرون العملية السياسية حق من
حقوقهم الموروثة بالطبيعة, يجب عليهم الحفاظ عليها!
النمط الآخر, هو النمط الذي يؤمن بأديولوجيا خاصة بجهة خارجية, أو
خاصة بفكرة خارجة عن فكرة الوطن والمواطنة, كالحالة المذهبية الطائفية
مثلا, أو الحالة القومية الانفصالية, وهذا النمط عادة ما يمزج أتباعه بين
نمطين متقاربين : الولاء لمشروع الأيديولوجيا الخارجية المنوه عنها, مع
خلطها بنوع من النفعية المصلحية الشخصية التي لا تختلف عن النوع الذي
يبحث عن مصلحته, والاختلاف فقط هي بالتقيد بالأوامر الخارجية أو
الأيديولوجية (اللاوطنية) !
نمط آخر مهم بدأ بالتشكل والنضوج وسط بيئة مجتمعية غير مؤهلة (بشكل
كامل), وظرف إقليمي ودولي احتدمت فيه صراعات إثبات الوجود وحفظ
المكتسبات, ألا وهو النمط الذي يدعو لتغليب الروح الوطنية على كل
المسميات والتوجهات والمشاريع والأيديولوجيات الأخرى, هذا النمط وُلِدَ
ضعيفا, محاطا بعاملين من عوامل التضعيف و (الإطفاء)!
العامل الأول هو النمط المجتمعي الذي لم يصل إلى الآن إلى مرحلة
الوعي الكامل بمفهوم المواطنة والوطنية, لعدم وجود مؤسسات تنشئة سياسية
رصينة كفيلة بتصدير هذا الفكر, فلم يجد هذا النمط مقدار التعاون والتعاطف
الكافي جماهيريا؛ الثاني هو وجود ماكنة صراع سياسية قوية, داخلية,
اقليمية, دولية, ترفض رفضا باتا تكوّن هذا النمط, الذي سيقود في نظر
أصحابها لتداعيات كثيرة, قد تؤدي إلى تخريب بنية كبيرة يملكونها, من
أنساق السيطرة والاستحواذ والهيمنة على مقدرات هذا البلد .
هذه التجاذبات بمجموعها (السلبي والايجابي) شكلت عوامل قوية هذه
المرة, لزعزعة سكونية العملية الانتخابية السياسية المعتادة في العراق,
والتي كانت تنطلق سابقا من منطلقات ثابتة (اجتماعية- سياسية- اقليمية
دولية)؛ فمن ناحية قادت هذه التجاذبات إلى تغير مسارات كثيرة, وتحول في
التعاطي مع المنتج السياسي, وتغيّر في توازنات التشكيل والتأسيس لنسق
العملية السياسية في العراق : ضمور القضية المذهبية, انحسار وهج التنظيم
المسلح, زيادة التأثير الحزبي في قطاعات معينة من الشعب (خاصة بعد مقاطعة
الأكثرية الغير حزبية للانتخابات), تنامي رفض جماهيري ونخبوي ومؤسساتي
كبير (ومشوش = غير منهجي), لفلسفة التدخل الخارجي والتأثير الدولي
والإقليمي.
الثوابت المهمة (الجيدة) التي يجب علينا الانصياع لها هي, أن هذه
العملية الانتخابية شكلت نقلة نوعية, في تغير ثوابت مبادئ تحريك بيادق
العملية السياسية الانتخابية, مما اضطر الكثير من الكيانات السياسية
(الخاسرة, أو التي حصلت على نتائج غير مرضية) إلى إعادة قرائتها للمشهد
السياسي, ومحاولة معرفة الأدوات الناجعة والصحيحة للتأثير في الشارع, أي
أن الأدوات التي كانت تعول عليها هذه الكيانات لتحقيق الفوز, ثبت فشلها,
وهذا يعني أن هناك وعيا سياسيا جماهيريا قد فلت زمامه, وانطلق بعشوائية
خارج أطر السيطرة الاقليمية والدولية في جمهور هذا البلد, وهو وعي بحاجة
لمتابعة وتنمية وتقوية.
النتيجة : فلسفة الحراك السياسي تتطلب منا الصبر, والمواصلة, وليس
التهديم وإلغاء نتائج الانتخابات, فتغيير نظام دكتاتوري ليس بالهين,
والأصعب منه محاربة نظام فاسد قد عشعش في كل مفاصل الحياة الاجتماعية
العشائرية والسياسية والاقتصادية .
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.
د. محمد أبو النواعير*