عندما ينظر الإنسان ويرى تلك الجموع الغفيرة وهي تحن وتئن وتبكي وتنوح وتلطم على شخص قد استشهد وسُبيت عياله وقُتلت أطفاله وأخوته وأصحابة منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة، فعلى الإنسان المنصف أن يحترم تلك العلاقة الغيبية التي جمعت بين أجيال مختلفة مع ذلك الشهيد المضحي الذي بذل كل ما يملك في سبيل الإسلام والدعوة الإسلامية، وكشف بثورته المباركة زيف وخداع ومكر مَن تلبَّس وتزيَّن بعباءة الإسلام وصار يحكم المسلمين باسم الإسلام الحنيف، هذه العلاقة الروحية والإرتباط العاطفي وألم المصاب قد أخبرنا به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما قال «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً» وكذلك قال (إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة)، إذًا، المؤمنون والعارفون هم مَن يبكون الحسين -عليه السلام- ويقدِّرون مواقفه وتضحياته، ويشعرون بألمة وعظيم مصيبته، فالمؤمنون والعارفون بهذا المصاب يواسون بحزنهم وشعائرهم جده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي بكاه قبل استشهاده -عليه السلام- وحزن عليه، كما روى المالكي في الدر الفريد ووالصواعق، عن أم سلمة قالت: كان عندي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-, ومعه الحسين -عليه السلام-) فدنى من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فأخذته فبكى الحسين فتركته فدنى الحسين منه من النبي -صلى الله عليه وآله- فأخذته, فبكى الحسين فتركته فقال جبرائيل -عليه السلام-: أتحبه يا محمد -صلى الله عليه وآله-؟ قال -صلى الله عليه وآله-: نعم قال جبرائيل: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك الأرض التي يقتل بها. فبكى النبي -صلى الله عليه وآله- وهذا دليل واضح على مشروعية البكاء على الحسين -عليه السلام- فرسول الله يبكيه في حياته، فكيف لو رآه مقطَّع الأوصال، محزوز الرأس من القفا، مخضب بالدماء، فماذا يفعل؟, إذًا فهنالك اسرار في هذا البكاء وهنالك اسرار في إحياء واقعة الطف ومصائب كربلاء لايشعر بها ولا يلتمس منها ولايحس بها إلا مَن آمن بتلك الثورة وقائدها وعمل على إحياء شعائرها المباركة، إذًا فهذه الثورة موجودة في ضمائر المؤمنين، وقد عبَّر المرجع المحقق السيد الصرخي الحسني عن تلك الضمائر في كتاب "الثورة الحسينية والدولة المهدوية" حيث قال: ((السيرة المتشرعية الواقعية والظاهرية تكشف مركزية ومحورية الثورة الحسينية وحيويتها في قلوب الناس وضمائرهم وتكشف أنّ هذا هو مراد النبي -صلى الله عليه وآله- والذي أرشد إليه وحثّ عليه بالقول والفعل والإقرار)).
سليم العكيلي