"لم يعد مناخ الأعمال والاستثمار والحياة اليومية في السعودية آمناً بعد اليوم"، ربما هذا ما دار في خلد الكثير من رجال الأعمال السعوديين في أعقاب حملة الاعتقالات الواسعة التي شنّها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في سبتمبر 2017 ضد رجال الأعمال والمستثمرين الوطنيين تحت مسمى "مكافحة الفساد" تعرضوا خلالها للذل والظلم وأقسى أنواع التعذيب، حملة شعواء طالت أمراء أثرياء من الأسرة المالكة السعودية وعدداً كبيراً من أفراد أكبر العائلات الثرية في السعودية، وساوم النظام السعودي المعتقلين على تقديمهم جزءاً من ثرواتهم مقابل الحصول على حريتهم.
وبالرغم من الأحلام الوهمية والوعود الكاذبة التي صدّرها ابن سلمان عبر إطلاقه لرؤية السعودية 2030 القائمة على الإصلاحات الاقتصادية، إلا أن حملة الاعتقالات التي نفذها شوّهت سمعة السعودية كثيراً وأفقدتها مكانتها على خريطة الاقتصاد العالمي، كما أن الحملة أثّرت بشكل واسع في تراجع معدلات الاقتصاد السعودي ما أدّى إلى حدوث هبوط حادّ ومتواصل لمؤشرات البورصة، إضافة إلى هروب الاستثمارات المحلية والأجنبية على حد سواء من السوق السعودي الذي لم يعد بأي حال من الأحوال سوقاً آمناً للتجارة والاستثمار.
وشكّلت حملة الاعتقالات سبباً رئيسياً في أن يبدأ رجال الأعمال السعوديين التفكير جدياً بإخراج استثماراتهم من المملكة أولاً ثم مغادرتها بصحبة عائلاتهم ثانياً وذلك للحفاظ على سلامتهم وسلامة أسرهم وأموالهم، وفيما يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي هي الوجهة المفضلة لهم كونها تمثل ملاذاً آمناً لثرواتهم وأسرهم مع توفير هذه الدول لإغراءات جاذبة لهم في وجود مناخ استثمار مستقر ومؤمن بكل سبل الحماية القانونية والاقتصادية من قبل السلطات الرسمية بهذه الدول.
وبالإضافة للسياسات المتهورة والاعتقالات التعسفية التي تشنّها السلطات السعودية على مواطنيها ومن دون أسباب موضوعية تذكر، جاءت جريمة اغتيال خاشقجي داخل قنصلية بلاده باسطنبول في اكتوبر الماضي لتنزل على المجتمع السعودي كالصاعقة ولتريق ما تبقى من ماء وجه النظام وولي العهد بن سلمان، وفي أولى تداعيات هذه الجريمة البشعة تعرّضت النسخة الأخيرة من مؤتمر مستقبل الاستثمار الذي احتضنته العاصمة الرياض في أكتوبر الماضي إلى فشل ذريع بعد انسحابات بالجملة سلجتها دول أوروبية وشركات ضخمة وهيئات عالمية وشخصيات اقتصادية مؤثرة في المشهد الاقتصادي العالمي، وذلك احتجاجاً على جريمة قتل خاشقجي.
وفي أعقاب ذلك أثّرت هذه الهزات المتواصلة التي تسبب فيها تهوّر السلطات على الاقتصاد السعودي بشكل قوي جداً ما دعا عدداً كبيراً من ملاك الشركات العائلية ورجال الأعمال السعوديين للبحث عن بديل آمن يلجؤون إليه بدلاً من بلدهم الذي أصبح مناخه طارداً للاستثمارات، وفي سياق ذي صلة كشفت صحيفة "تايمز أوف مالطا" المالطية عن أن 62 مواطناً سعودياً ينتمون إلى اثنتين من أغنى العائلات في السعودية أصبحوا مواطنين مالطيين وبالتالي مواطنين في الاتحاد الأوروبي عام 2017 بعدما دفعوا ملايين اليوروهات لشراء جواز سفر مالطا.
واستندت صحيفة المالطية إلى الجريدة الرسمية للبلاد التي نشرت قبل أيام قائمة بالأسماء العائلية فقط للحاصلين على جوازات سفر مالطية عام 2017، ومن بين هؤلاء عائلتا المهيدب والعقيل، ووفق الصحيفة المالطية، فإن عائلتي المهيدب والعقيل ليستا فقط من بين أغنى العائلات في السعودية، ولكنهما أدرجتا في تصنيف مجلة فوربس الأمريكية لأغنى العائلات بالعالم، ومن الإغراءات التي شكّلت عامل جذب رئيسي لرجال الأعمال السعوديين هي البرنامج الاستثماري الذي أطلقته مالطا عام 2014 حيث أنه يمكّن الراغبين في الحصول على جنسيتها مقابل دفع مبلغ 650 ألف يورو، ويتيح نيل جواز السفر المالطي التنقل بحرية داخل دول الاتحاد الأوروبي بحكم أن حامل ذلك الجواز يمتلك الجنسية الأوروبية تلقائياً.
وتنشط مجموعة شركات المهيدب التي أسست عام 1946 في مجال مواد البناء والمواد الغذائية، ويترأسها سليمان المهيدب الذي تتجاوز ثروته حسب فوربس ثلاثة مليارات يورو، وقد نال الملياردير السعودي و34 من إخوانه وزوجاته وأفراد عائلاتهن جواز السفر المالطي، أما عائلة العقيل التي تمتلك مكتبة جرير فإن ثروتها تفوق المليار ونصف المليار يورو، وقد حصلت على 27 جواز سفر مالطي، ويسيطر على مجموعة جرير المدرجة بالبورصة السعودية الإخوة محمد وعبد الكريم وعبد السلام وعبد الله وناصر العقيل، وكلهم أصبحوا مواطنين مالطيين، وفيما يبدو أن الخطوات التي اتخذتها عائلتي المهيدب والعقيل، والتي يعتبر أفرادها من أثرياء السعودية والعالم، تشكّل حافزاً قوياً لرجال الأعمال السعوديين للتفكير بصورة جادة للمحافظة على ثرواتهم وممتلكاتهم من تغول السلطات وذلك عبر إخراج استثماراتهم ومغادرة المملكة هم وعائلاتهم إلى مالطا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي التي توفّر لهم الضمانات اللازمة التي تحميهم وتحمي أسرهم ورؤوس أموالهم.