يلاحظ وجود حيوية في المجتمع المدني وتنظيماته تستحق التنويه أحيانا غير قليلة، كما يتجلى ذلك في المناسبات التي تستوجب التضامن واللحمة الاجتماعية.
تحمل الظاهرة تلك على طرح سؤالين اثنين أو، بالأحرى، سؤال له شقين: هل تمكن الاستعاضة بالمجتمع المدني عن المجتمع السياسي في العالم المعاصر وفي الوجود السياسي السليم؟ وهل يمكن للمجتمع المدني، من حيث هو كذلك، أن ينهض بالشأن السياسي؟ نقول، في عبارة أخرى، هل في الإمكان الحديث عن نظام ديمقراطي والنظام يتطلع إلى إقرار الحياة الديمقراطية الطبيعية؟؛ نحسب أن خير إجابة عن الأسئلة السالفة، أو بالأحرى السؤال الواحد في صيغه المختلفة، ومجموع التجارب التي عاشها العالم العربي منذ مستهل خمسينات القرن المنصرم أو التي لا يزال يعيشها في مناطق منه بكيفيات متنوعة في الظاهر متماثلة في العمق؛ إن في وسع المجتمع المدني أن يحل محل المجتمع السياسي وينوب عنه أو ينوب منابة كما يقول علماء الكلام المسلمون.
المجتمع المدني والتغيير:
إن وظائف المجتمع المدني تشكل منظومة حركية دينامكية تواصلية، في إطار فلسفة إستراتيجية واضحة في أساليب العمل والوسائل لتحقيق أهدافه، يمكن استبدالها وتغييرها تبعا لكل حالة، إضافة إلى المواقف الرسمية ذاتها ومدى استجابتها لمطالب المجتمع المدني وحقوق مكوناته المختلفة؛ لكن في كل الأحوال والظروف فإن حل التناقض بين الدولة والمجتمع المدني سيكون عبر التدخل السلمي، المدني، ومن خلال التراكم والتطور التدريجي، وصولا إلى استكمال الشرط التاريخي لعملية التغيير موضوعيا وذاتيا، فلكل عملية تغيير أسس ثقافية تسهم من خلال التراكم والتطور التدريجي،
للمجتمع المدني دور مهم في عملية التغيير، يتأتى له ذلك في تماسكه من خلال الحفاظ على التمسك الشديد باحترام روح القوانين والحقوق ورعايتها بعد التغيير، وهو أمر في غاية الأهمية، لاسيما وأن الكثير من الثورات ولأسباب موضوعية، بددت وقتا وجهودا جبارة ضيعت إمكانات هائلة بسبب انفلاتات أعقبتها وأعمال عنف لازمتها، مما ينبغي عليه أن يواصل هذا الدور من دون الاستغراق في الحصول على بعض مكاسب التغيير، مثلما قام به من أدوار تحسيسية وتوعية وتنويرية في شأن نشر الوعي الحقوقي والقانوني وثقافة اللا عنف ،لأن ذلك سيقلص من وظيفته ويجعلها تصنف في العمل السياسي، في حين أنها مدنية حقوقية، مهنية، لأنه لا يسعى للوصول إلى السلطة أو إقصاء الآخر وإلغائه، وإلا بماذا سيختلف عن دور الأحزاب والتنظيمات السياسية الطامعة في الوصول إلى السلطة وتحقيق برامجها.
وبقاء المجتمع المدني وفاعليه يرتهن ببعده عن السلطة وأذنابها، الأمر الذي يمكن أن يفتح بابا لدخول شركاء جدد في الحياة العامة.
واعتقادا أن الشباب الطامحين إلى التغيير والحرية والعدالة، وقبل كل شيء إلى الكرامة سيكونون متفهمين لمثل هذا الدور، حيث سيمثل لهم المعين والمساعد والداعم في قيامهم بمهامهم الكبرى وتحقيق طموحاتهم بغية الوصول لتحقيق التغيير المنشود من خلال البناء، الذي يعد الركيزة الأساس في عملية التغيير، بل هو جوهر التغيير ومضمونه، من أجل كسب الرهان المجتمعي في بناء مغرب المساواة والشفافية بتخليق الحياة العامة، ومحاربة كل مظاهر الفساد، وترسيخ قيم الشفافية وتعميق التربية على المواطنة وحقوق الإنسان والحرية وقيم الاختلاف، وبربط المسؤولية بالمحاسبة والجدية والصرامة في تطبيق روح القانون، وتوظيف منتديات الحوار في بناء مغرب الغد، مغرب الديمقراطية والحداثة.
ومما لا يدع مجالا للشك، أن بعض الحكومات كانت تتصرف بذكاء أحيانا مع بعض الفاعلين في المجتمع المدني حين تشعر بالاطمئنان من أن المجتمع المدني لا يريد إزاحتها أو إلغاء دورها والحلول محلها، فتصفق لهم بحرارة حتى وإن كانت تختلف معها، وفي حالة ما إذا تجاوزنا هذا المفهوم الذاتي، فهناك تصورات موضوعية يتعلق بعضها في الوصول إلى فهم مشترك بين الحكومات والمجتمع المدني، وإن كان لم يتبلور بعد، لاسيما في بلداننا، من أن المجتمع المدني هو موجه في إطار ما هو قائم ولا يريد التدخل بالسياسة أو إحداث تغييرات بالقوة، ولهذا تحاول الدولة وأجهزتها تطويعه أو تدجينه أو إغراء بعض فاعليه لإضعاف قوته المؤثرة في الفعل وتشويه دوره، الأمر الذي يستوجب إظهار الجانب الآخر من خلال تأكيد حرصه وإصراره على الإصلاح والتغيير بما يؤدي إلى احترام الحقوق والحريات، لاسيما من خلال فضاء الحوار والعلاقة مع الآخر.
يمكن القول أن غياب تنظيمات المجتمع المدني أو تغييبها أمر يرادف تمركز السلطات، والعكس صحيح جدا، فكلما قام النظام السياسي على التعددية والديمقراطية وفصل السلطات، كلما كان المجتمع المدني مستقلا وقوة مؤثرة وفاعلة وتلعب أدوارا نشيطة في الرقابة والشراكة، لأنها جزء من الدولة وكياناتها وسيرورتها.
على سبيل الختم:
وما يمكن الختم به هو القول الآن، يقع على عاتق الشباب مسؤولية كبيرة للنهوض بأنفسهم أولا ومن بعد مجتمعاتهم، ولا نريد أن نلقي بأخطائنا وإخفاقاتنا على المجتمع ومؤسساته، لا بل تحميل الشباب نداء واجب الانتماء للوطن والنهوض به نحو الحرية والتقدم والتنمية الحقيقية، وليأخذوا مشعل المبادرة اليوم بصناعة الوعي الفكري وتحطيم كل الأوثان والأصنام التي صنعتها الأنظمة وجعلتها في مقام المقدس من أجل قتل إرادة الإنسان وإجهاض أحلامه واستنزاف مستقبله، وبهدم كل الأسس الميتافيزيقية التي تسيج بها الأنظمة نفسها والتي يساندها علماء السلطان وتحميها النخب الوصولية والانتهازية، وعدم انتظار مبادرات الغير، من أجل الحقوق المهضومة والكرامة المستلبة.
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية