إنَّ بوصلةَ الإنسانيّةِ وأعيُن البشريّةِ وقلوب الناس تتجهُ كلّها وتتفق على أنَّ الأخلاقَ هي القاعدة الأولى في بناء الأمم وازدهارها، فلم يخلُ دينٌ ولم يخلُ قانون على هذا الكوكب من وجود تشريعات في هذه القوانين تنصُّ على ضرورة التحلِّي بمكارم الأخلاق؛ لأنّها سببٌ رئيس في نشوء مجتمع الفضيلة، وقد حثَّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- على الأخلاق حين قال: “إنَّما بعثتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ” ، وفي هذا البحث سنتناول شرح دور الإيثار في حل المشكلة الاجتماعية.
إنَّ الإيثار هو لغة العظماء، وهو دليل على رسوخ الإيمان والثقة بما عند الرحمن، وهو علامة حبّ المرء لإخوانه، وبرهانٌ على سلامة النفس من الجشع والأنانية والطمع لذلك نجد بعض الانظمة العالمية تخلو من هذه الصفة الاسلامية المِعطاء التي تقدّم مصالح الاخرين على المصالح الشخصية , كما في نظامِ الرأسماليةِ الذي قدّم المصالح الشخصية على المصالح الجماعية , وهنا نذكر ما قاله المحقق الصرخي الحسني "إنَّ المادية الَّتي تربّى وزخر وتزيّنَ النِّظام الرأسمالي بروحها، قد أدتْ إلى إقصاء الأخلاق مِنَ الحساب، فلم يُلحَظ لها وجود في ذلك النَّظام، أو بالأحرى تبدلتْ مفاهيمُها ومقاييسها، وأُعلِنت المصلحة الشَّخصية كهدفٍ أعلى، والحرّيات جميعًا كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة فنشأ عَنْ ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث مِنْ محنٍ وكوارث، ومآسي ومصائب"(1).
لذلك تجد النظام الاسلامي وما أتى به من الاخلاق التي قضت على الافعال الرذيلة واللا اخلاقية التي تزرع في الانسان حب الانا وتفضيل حب النفس على حب الاخرين, حيث دعا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم )وحثّ المسلمين على التحلي بأخلاق الاسلام حيث قال : " حبّ لاخيك ما تحبّ لنفسك " لذلك تحلّى الرسول وال بيته (عليهم السلام ) بكل معاني الانسانية والاخلاق وتحملوا عِبأجميع الاخطار من اجل إيصال الدين الاسلامي وديموميتهِ ولا يخفى على الجميع موقف أبن عم الرسول (صل الله عليه واله وسلم ) علي بن ابي طالب (عليه السلام ) قد ذكر احد المؤرخين "فعندما حاصر المشركون بيت النبي الاكرم من اول الليل، ليهجموا عليه في منتصف الليل لقتله تبيّن لهم غير الذي اعتقدوه، إذ وجدوا علي ابن ابي طالب في الفراش"(2).
وعليه ان مبيت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في فراش النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) لم يكن أمراً يسيراً من الممكن أن يؤدّيه أيّ انسان اعتيادي، بل كان أمراً يتطلب شجاعة كبيرة ، ولاسيّما حين يعلم أنّه سيُقْتَل لا محالة، ذلك لأنّ مشركي قريش اتخذوا قراراً لقمع الدين وانهاء وجود النبيّ الاكرم في تلك الليلة . وهذا ارقى انواع الايثار والاخلاق التي ادت الى وصول الاسلام الى جميع انحاء المعمورة بسبب إيثار امير المؤمنين علي ابن ابي طالب على نفسه لتكون مصلحة المجتمع حاضرة في ذهنه , لأن بقاء الاسلام ببقاء النبي لتصل رسالته لجميع البشر على حد سواء , وهنا تكمن مصلحة المجتمع .
لذلك تجد الدين الاسلامي عالج مشكلة المادة وحب الانا من الجذور وهذا ما ذكره المحقق الصرخي الحسني " تربية الأخلاق والقيم الروحية: هذا المنهج يتخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية، وهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة تُعنى بتغذية الإنسان روحيا وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخُلفية فيه، فإن في طبيعة الإنسان - كما ألمحنا سابقا- طاقات واستعدادات لميول متنوعة: أ- بعضها ميول مادية تتفتح شهواتها بصورة
طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، ب- وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد.
ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان إذا تُرِكَ لنفسه- أن تسيطر عليه الميول المادية، لأنها تتفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة، والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة
النبي، الرسول، الإمام) مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها.
فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة، ويصبح الإنسان يحب القيم الخُلُقية والمُثل التي يربيه الدين على احترامها، ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه، وليس معنى ذلك أن حب الذات يُمحى من الطبيعة الإنسانية، بل إن العمل في سبيل تلك القيم والمثل يعتبر تنفيذا کاملا لإرادة حب الذات؛ فإن القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان، ويكون تحقيق المحبوب بنفسه مُعبّرا عن لّذة شخصية خاصة، فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخُلقية المحبوبة تحقيقا للّذة الخاصة بذلك،
فهذان هما الطريقان والمنهجان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخُلقية بالمسألة الفردية:
١- الفهم المعنوي للحياة: وهو فَهم الحياة على أنها تمهيد لحياة أبدية، ويتلخص في إعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية، لا لأجل أن يَ
زهد الإنسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل، بل لأجل ضبط الإنسان بالمقياس الخُلُقي الصحيح الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.
فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخُلُفية للنفس في رسالة الإسلام، هما | السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية، فالفهم المعنوي للحياة) و(الإحساس الخُلُقي بها)، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسها المقياس
الذي يضعه الإسلام للإنسانية، وهو: رضا الله تعالى، وإرضاء الله، الذي يضعه الإسلام مقياسا عاما في الحياة، هو الذي يقود السفينة البشرية إلى ساحل الحق والخير والعدالة.
فالميزة الأساسية للنظام الإسلامي تتمثل فيما يرتكز عليه من؛ فهم معنوي للحياة وإحساس خُلقي بها، والخط العريض في هذا النظام هو؛ اعتبار الفرد والمجتمع معا، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتسعى لحسابه .
وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والإحساس، فهو إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشد الأخطار، وإما نظام يحبِس في الفرد نزعته وَيَشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه، فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته، والأفراد ونزعاتهم، بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام - دائما- للانتكاس على يد مُنشئه ما دام هؤلاء ذوي نزعات فردية أيضا، وما دامت هذه النزعات تجد لها- بگبي النزعات الفردية الأخرى وتسلم القيادة الحاسمة - مجالا واسعا وميدانا لا نظير له للانطلاق والاستغلال.
وكل فَهم معنوي للحياة وإحساس خُلقي بها (لا ينبثق عنهما نظام کامل للحياة يُحسَب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه، وتُعطى لكل فرد حرّيته التي هذبها ذلك الفهم والإحساس، والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما) فهو فَهم خاطئ أو ناقص غير متكامل، أقول: إن كل عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيقا للجو وتخفيفا من الويلات، وليست علاجا محدّدا تامًّا وقضاءًً حاسما على أمراض المجتمع ومساوئه"(3).
وختاماً ندعو البشرية جمعاء لتحكيم العقول واتباع الدين الاسلامي وقانون منقذ الانسان من العبودية والاستغلال بأسم الديمقراطية وحرية الفرد , وذلك لان هذه المصطلحات ما جُعلت الا لسلب كرامة الانسان ليعيش في كد وعيش وعناء شاق.
.......................
المصادر :ـ
_(1) ..(فلسفتنا بأسلوب وبيان واضح) ـ المبحث الثالث ـ المطلب الثالث
......
_(2).. ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الامالي، تحقيق علي اكبر الغفاري،( طهران: دار الكتب الاسلامية ، 1381)، ج1 ، ص447.
_(3).._(3)..(فلسفتنا بأسلوب وبيان واضح) ـ المبحث التاسع ـ المطلب الثالث ص 78
أنمار الحسيني