لم يتنازل المختار ولد داداه وهو أول رئيس لموريتانيا عن مطالبه في الحصول على جزء من الأراضي التي كانت تحتلها إسبانيا، وقد قضى عشرات جلسات المفاوضات الساخنة وجها لوجه مع الملك الحسن الثاني للاتفاق على الحدود المغربية الموريتانية بعد انسحاب إسبانيا، وكان أن تم ذلك سريا في سنة 1972، وانتظر ولد داداه مصادقة الحسن الثاني على الاتفاقية التي حضر توقيعها الرئيس الجزائري هواري بومدين، لكن الملك كان يقدم مبرراته في تأجيل المصادقة، منها ما يتعلق بالأوضاع الداخلية للمملكة التي عاشت انقلابين متتالين، ومنها التي أخبره بها في ما بعد وتتعلق بالحرب الخفية مع جزائر بومدين.
"لا للمغرب ! فقد كنا موريتانيين، ونحن اليوم موريتانيون، وسنظل موريتانيين". إنها واحدة من الشعارات الساخنة التي ظلت تحكم قادة الجارة الجنوبية حتى قبل استقلالها مع بداية الستينيات من القرن الماضي، ومن ضمن هؤلاء القادة الموريتانيين المختار ولد داداه الذي انتخب رئيسا للجمهورية الإسلامية الموريتانية في ماي 1961، وأعيد انتخابه في هذا المنصب ثلاث مرات قبل أن يطيح به انقلاب عسكري في يوليو 1978.
لقد كان المغرب يطالب بعودة موريتانيا إلى الوطن الأم، وكان القادة الموريتانيون على نقيض من هذه المطالب التي أصر الملك محمد الخامس على التشبث بها وشرحها لمختلف دول العالم، حيث كان ملك المغرب مقتنعا بأن موريتانيا كانت إحدى المحافظات المغربية وقد اقتطعها الاستعمار الفرنسي من وطنها الأم غداة استقلال المملكة.
وعلى الرغم من المحاولات التي قام بها الملك محمد الخامس من اتصالات علنية مع قادة الدول الإفريقية والعربية من خلال عشرات وفود الوزراء والسفراء، أو من خلال اتصالات الوساطة السرية التي لعب فيها زعماء سياسيون مغاربة وأجانب دورا خاصا، فقد ظل ولد داداه ورفاقه في القيادة الموريتانية متشبثين بأحقية الأراضي الصحراوية التي كانت محتلة من طرف الاستعمار الإسباني والفرنسي على حد سواء.
وكانت أولى اللقاءات الرسمية التي تمت بين الرئيس الموريتاني والجانب المغربي، مع عبد الرحيم بوعبيد وزير الدولة المكلف بالشؤون الاقتصادية في يوليوز 1957 :"وعلى الرغم من تعارض موقفينا تماما، فقد كان اللقاء وديا، وكان الهدف منه أن يُطلع كل منا الآخر مباشرة وبشكل صريح لا لبس فيه على موقف بلده من مطالبة المغرب بموريتانيا".
لقد كان المغرب في موقع قوة من خلال مطالبته بموريتانيا، بالنظر إلى خارطة الحدود الملغومة التي تركها الاستعمار، وزاد في هذا الموقع المؤثر للطرف المغربي، انضمام شخصيات موريتانية إلى المغرب، غير أن رفاق ولد داداه كانوا يحسون بذلك الدعم الهائل من طرف فرنسا : "لقد كان من الواجب، ونحن نعد العدة لاستقبال الاستقلال المنتظر، أن نقاوم دعاوى المغرب، وسندنا الأساس في ذلك فرنسا...".
فقد أصبح ولد داداه ورفاقه يحسون بنوع من العزلة التي لا تكسر طوقها غير فرنسا الحليفة، خصوصا بعدما بدأ بعض الزعماء الموريطانيين يلتحقون بالفكرة المغربية، حيث كان عليه أن يهتم بالوحدة السياسية الداخلية للأحزاب والقبائل والعشائر فعقد مؤتمر الوحدة بين الأحزاب السياسية الموريطانية للشروع في بناء الأمة والدولة الموحدتين، وكان من بين الحاضرين في مؤتمر الوحدة الذي انعقد في ماي 1958 وفود من "موريطانيا الإسبانية" أي الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا، بقيادة خطري ولد سعيد الجماني رئيس البيهات، قبل أن يصبح من الزعماء الصحراويين المغاربة، والذي عاد لزيارة ولد داداه في نواكشوط سنة 1962 وبقي على اتصال به عن طريق بعض الوسطاء حتى سنة 1975، وظل حتى ذلك التاريخ، رغم صلاته بالمغرب والجزائر، يعترف بموريطانية الصحراء التي تحتلها إسبانيا.
ولا يخفي ولد داداه العلاقات الوطيدة والإستراتيجية التي كانت تربط بين موريطانيا وهي المقبلة على استقلالها الداخلي ثم الوطني، وبين الجمهورية الفرنسية، فلولاها لما تمكنت موريطانيا من الحصول على استقلالها، ومن الشروع في بناء اقتصادها عكس ما جرى بين فرنسا والمغرب، وهذا مثال واحد فقط : "كانت شركة معادن حديد موريطانيا "ميفرما" قد أُنشئت سنة 1952، ولكن ضخامة المبالغ التي يلزم توفيرها للبدء بالاستغلال حالت دون الشروع في التنفيذ، وهكذا لم تتمكن "ميفرما" من الانطلاق في عملها قبل الشروع في تنفيذ القانون الإطاري لسنة 1957، وبما أن المساهمين لم يتمكنوا بمفردهم من توفير الأموال الضرورية لبدء العمل، فقد طلبوا قرضا بمبلغ سبعين مليون دولار من البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية، وأدت ضخامة المبلغ والتطورات التي تعيشها أقاليم ما وراء البحار الخاضعة للنفوذ الفرنسي ومنها موريطانيا إلى تأخير هذا الملف فبقي يترنح في مكاتب البنك الدولي، وفي هذا الوقت دخل عنصر جديد ذو طابع دبلوماسي زاد الطين بلة وهو مطالبة المغرب بموريطانيا، وقد أراد المغرب وهو عضو في البنك الدولي أن يمنع موريطانيا من الحصول على هذا القرض، وساندتها في ذلك بعض الدول الحليفة لها، وأعلن على الملأ ادعاءها بأن موريطانيا جزء لا يتجزأ من الأراضي المغربية ويحاول الاستعمار الفرنسي اقتطاعها ليقيم فيها نظاما صوريا يجند لتحقيق مآرب فرنسا ... ورغم موقف المغرب وأنصاره، وافق البنك الدولي مبدئيا على القرض الذي سيمنح للشركة بشرط أن يكون مضمونا من لدن فرنسا وموريطانيا...".
لقد كانت العلاقات بين المملكة في عهد الملك محمد الخامس والدول الإفريقية والعربية على وجه الخصوص طيبة للغاية، وهذا ما ساعدها على إقناع دول أجنبية عديدة بأحقية المغرب بموريطانيا، وهذا ما حدث بين محمد الخامس والرئيس المالي "موديبو كيتا"، الذي ساند المغرب في إمكانية تقسيم الصحراء المتنازع عليها إلى جزء شرقي لمالي وجنوبي للسينغال والباقي للمغرب، وهو المشروع الذي سماه ولد داداه بالشيطاني.
ومع بداية سنة 1960، أصبح المغرب أشد تشبثا بدعواه بانضمام الأراضي الموريطانية إلى حظيرة الوطن وكثف جهوده الديبلوماسية شيئا فشيئا مع اقتراب موعد استقلال موريطانيا، حيث قام محمد الخامس شخصيا بحملة ديبلوماسية واسعة زار في نطاقها كافة دول المشرق العربي تقريبا، وضم إلى محيطه الشخصيات الموريطانية الرئيسة التي لجأت إلى المغرب، ويعتبر حضورها أكبر دليل على وجاهة المطالب المغربية في موريطانيا، وكان من نتيجة هذه الحملة أن اعترفت كافة الدول بالطابع المغربي لموريطانيا، وكان الشيء الأكثر بروزا هو القرار الذي تم تبنيه في مؤتمر "شتورة" بلبنان حيث أصدرت اللجنة السياسية للجامعة العربية توصية بـ"مساندة المغرب في مطالبته باستعادة موريطانيا بوصفها جزءا لا يتجزأ من أراضيه، ودعمها لموقف المغرب في الأمم المتحدة".
لقد اتسمت العلاقة بين موريطانيا والمغرب حسب ولد داداه بالتوتر والعداء خلال فترة الستينيات، لدرجة أن طالب المغرب في عهد الملك محمد الخامس بإدراج القضية الموريطانية في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأرسل بعثات جابت أرجاء العالم ليعرض وجهة نظره ... غير أن هذا المنطق في المطالبة بموريطانيا شهد تغيرا في عهد الملك الحسن الثاني، ولربما قبل أن يصبح مولاي الحسن ملكا، وكان أول موقف عبر عنه ولي العهد آنذاك وهو نائب رئيس الحكومة لجريدة "لوموند" الفرنسية في يونيو 1960 : "ليس من مصلحة المغرب أن يحكم موريطانيا قواد caids مغاربة، وأملنا أن نوفق إلى تحقيق نوع من الشراكة التي تقام بين دولة وأخرى !" فرد ولد داداه :"لأول مرة، تتحدث شخصية مغربية سامية عن موريطانيا كدولة".
الأكثر من ذلك، فقد علق الحسن الثاني على طلب إدراج القضية الموريطانية في جدول أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة بقوله : "ليس لدي كبير أمل في أن تحل الأمم المتحدة المسألة الموريطانية، وأرى أن المشكلة الموريطانية تعني أولا وقبل كل شيء أبناء موريطانيا أنفسهم"، وبعد أيام قليلة وصل مولاي الحسن إلى نيويورك ليقوم بالدفاع أمام أكبر هيئة دولية عن الملف الذي تقدم به المغرب فأعلن من جديد : "إننا لم نعارض أبدا استقلال موريطانيا من حيث المفهوم أو الفكرة، ولكننا نعارض من يسعون إلى التفرقة ليسودوا، فيقومون بإنشاء دول مصطنعة".
وبعد فترة طويلة من هذا التاريخ، التقى الحسن الثاني بولد داداه في شتنبر 1969 في الرباط بحضور الرئيس الجزائري هواري بومدين وأخبره بالنقاش الطويل الذي دار بينه وبين والده محمد الخامس بشأن موريطانيا ودخولها الأمم المتحدة بشكل خاص، وعلق الملك قائلا : "إن ولي العهد ونائب رئيس الحكومة عليه أن يمتثل لأوامر أبيه الذي هو في الوقت ذاته رئيس حكومته وملكه. لقد قمت بالدفاع عن ذلك الملف طاعة لأبي وملكي، ولم أتمكن يومها من إقناع كل المشاركين في الجمعية العامة للأمم المتحدة".
لقد عملت الجمهورية الإسلامية الموريطانية على الخروج من الطوق الذي وضعه الملك محمد الخامس عليها، وسارع ولد داداه إلى الحضور في كافة احتفالات إعلان استقلال الدول الإفريقية، وحرص على أن يترأس شخصيا وفود موريطانيا إلى "ياوندي" و"لومي" و"داكار" (فيدرالية مالي) ثم "مقاديشيو" و"أبيدجان" و"لاغوس"، ثم عمل على الاتصال برؤساء الدول والمسؤولين السامين، وقابل وفودا أجنبية عديدة إفريقية وعربية وأوربية وآسيوية وأمريكية ... وقد كانت مواقف الوفود العربية باستثناء الوفد التونسي تتسم دوما بالتحفظ تجاه الموقف الموريطاني :"غير أنه اتضح لي أن هذه الوفود كانت تجهل تماما موقفنا، فلم يسمعوا غير وجهة النظر المغربية".
وكانت أول مرة يناقش فيها ولد داداه موضوع موريطانيا مع مسؤول عربي في يوليوز 1960 في "مقديشو" بالصومال مع محمد فائق مستشار الرئيس جمال عبد الناصر للشؤون الإفريقية، فكانت بداية تغير الموقف المصري من المسألة الموريطانية، تلاه تغير الموقف النيجيري ثم الموقف التونسي حيث أكد له الدكتور الصادق المقدم وزير الشؤون الخارجية : "إننا نقف إلى جانبكم بدون شرط، وسيكون لهذه القضية انعكاس كبير على علاقاتنا مع المغرب، ويمكن أن يصل الأمر إلى قطع المملكة المغربية علاقاتها الديبلوماسية معنا، ولكن ذلك لا يهمنا مادمنا مقتنعين بعدالة قضيتكم، وهو ما سنوضحه في الاعتراف باستقلالكم، إن المجاهد الأكبر لا تأخذه في مبادئه لومة لائم".
والأكثر من ذلك، فقد بدأت بعض الدول العربية بالاعتراف بالجمهورية الإسلامية الموريطانية، مثل سوريا في سنة 1966 ثم العراق في 1969 فلبنان في سنة 1971 والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت ومصر وقطر ... بالإضافة إلى الدول الإفريقية التي كانت إلى جانب موريطانيا في حملتها الدبلوماسية أو الدول التي كانت تدعم بالسلاح مثل ليبيا.
وعلى وجه العموم، منذ سنة 1962، غيرت الرياح اتجاهها في ما يخص الموقف المغربي في عهد الملك الحسن الثاني الذي بدأ يضاعف اتصالاته الدبلوماسية، حيث طلب بشكل خاص من الجنرال ديغول أن يكون وسيطا بينه وبين ولد داداه، ولربما اختار الحسن الثاني وساطة ديغول نظرا للعلاقة الخاصة التي تربط بين فرنسا وموريطانيا من جهة، وبين رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس الجمهورية الموريطانية أيضا، وقد استقبل ديغول ولد داداه في مكتبه الخاص في الزيارة التي قام بها لباريس بين 23 و26 ماي 1962، بعد الزيارة التي قام بها الحسن الثاني لديغول يومي 10 و11 من نفس الشهر ونفس السنة : "السيد الرئيس - يقول ديغول لولد داداه - لقد استقبلت منذ قليل، كما تعلمون ملك المغرب الذي كان على علم بقدومكم إلى باريس في زيارة رسمية، فطلب مني مقابلتي ليحدثني خصوصا عن موريطانيا ... وكلفني بأن أُبلغكم برغبته الصادقة في إيجاد حل مناسب يمكنه من التخلص من هذا الإرث المزعج الذي تركه له الفقيد محمد الخامس، وهو يطلب منكم مساعدته في الوصول إلى هذا الحل المنشود، وهو حل يحمل بين ثناياه مصالح الشعبين، ويسمح بإقامة علاقات طبيعية بين بلده وبلدكم على المستويين الداخلي والخارجي، وذلك باعتبار بلدكم بلدا مستقلا كامل السيادة، ولكن هذا الحل ينبغي أن يتخذ شكلا يصون للملك ماء وجهه، وخاصة أمام حزب الاستقلال وزعيمه علال الفاسي، فهذا الحزب وزعيمه لا يرغبان في سماع أي حديث عن الاعتراف بموريطانيا من لدن المغرب، وبما أن الملك على علم بموقفكم فإنه يكتفي باعترافكم بأي شكل من أشكال السيادة الروحية، وإذا لم يتسن ذلك فإنه يقبل صيغة أخرى مثل الاتحاد بين بلدين مستقلين وكاملي السيادة كما هو حاصل بين غانا وغينيا ومالي ...".
وعلى الرغم من العلاقة التي تجمع بين الطرفين، ديغول وولد داداه، وبين البلدين، فرنسا ومورريطانيا، فقد فشلت المساعي الحميدة للرئيس الفرنسي بعد تشبث الرئيس الموريطاني بموقفه، على الرغم من ذلك التهديد المبطن الذي عبر عنه ديغول : "... فرنسا ستكون محرجة في مقاومة المغرب إذا قامت الأخيرة باجتياح الجمهورية الإسلامية الموريطانية، وهذا احتمال وارد، خاصة أن المغرب سيستعيد دون شك، تيندوف بعد نهاية حرب الجزائر التي أصبحت نهايتها وشيكة...".
بعد ديغول، طلب الملك الحسن الثاني وساطة الرئيس "سنغور" عن طريق مستشاره السياسي لرئيس الجمهورية السينغالية، وهذه المرة طلب الملك أن تكون المباحثات سرية تفضي إلى توقيع اتفاق ذي طابع فيدرالي أو كونفدرالي، وأن الملك سيعامل ولد داداه كرئيس دولة، غير أن هذا الأخير كان له رأي آخر : "... ما يجب أن يعترف به علنا هو استقلال وسيادة الدولة الموريطانية، وبعد ذلك فقط نصبح مستعدين لنقاش اتفاقيات تحكم العلاقات في المجالات التي تقتضيها المصلحة المشتركة للمغرب وموريطانيا على غرار الاتفاقيات التي تربطنا بفرنسا أو دول الاتحاد الإفريقي الملغاشي".
لقد كان الرئيس الموريطاني الذي ظل متشبثا بموقفه تجاه المغرب متأكدا من ذلك التقدم الديبلوماسي الذي تحققه موريطانيا، خصوصا باعترافها باستقلال الدول الإفريقية أو مناصرتها ضد التدخلات الأجنبية من قبيل اعترافها بالجزائر فور إعلان استقلالها، كما زاد قبول عضوية موريطانيا في الأمم المتحدة سنوات قليلة بعد استقلالها من دعم الموقف الموريطاني المصر آنذاك على إعلان المغرب اعترافه بها.
ويقول ولد داداه في مذكراته إن المغرب ازدادت عزلته الدبلوماسية التي لم يخرج منها إلا في سنة 1969 بفضل انعقاد القمة الإسلامية الأولى بالرباط، وكانت هذه السنة سنة تطبيع العلاقات الموريطانية المغربية، حيث طلب الطيب بنهيمة وزير الخارجية المغربي من ولد داداه حضور القمة الإسلامية بالرباط بناء على طلب من جلالة الملك الحسن الثاني، وكان جواب المختار ولد داداه كالتالي : "إذا تلقيت من الملك دعوة مماثلة لتلك التي سيوجه لرؤساء الدول المدعوة لحضور المؤتمر، فسأرد عليها بالإيجاب وبكل سرور"، وهكذا كان، حيث نزل الرئيس الموريطاني بمطار الرباط يوم 22 شتنبر 1969 : "ورأيت الملك محاطا بلجنة الاستقبال عند سلم الطائرة التي تقل وفدنا، وعلمُنا يرفرف إلى جانب العلم المغربي وسط حوالي الأربعين من أعلام مختلف الدول الإسلامية، ثم استمعنا إلى نشيدنا الوطني ... فخامرني شعور بالارتياح والعزة قلما شعرت به".
وفي بداية المؤتمر عرض الرئيس بومدين على الرئيس الموريطاني أن ينظم في الفيلا التي يقيم فيها لقاء بينه وبين الملك، فتم اللقاء، وهذا جزء مما حدث فيه حسب المذكرات دائما : "لقد شكر الملك الرئيس بومدين، وقال بنبرة مزاح ودي إنني كنت خصما عنيدا ثم بدأ "الاعتراف بخطاياه" وقال لم أكن في يوم من الأيام أوافق على مطالبة المغرب بموريطانيا، وأعربت دوما - والكلام للملك - عن ذلك الموقف كلما سنحت لي الفرصة، وبالذات في جريدة لوموند، وأعربت لكم عن ذلك عن طريق أكثر من وسيط، غير أني لم أكن سوى ولي عهد ورئيس حكومة المغفور له والدي الذي كان له رأي مغاير لرأيي... وأتذكر أنني حملت والدي رحمه الله عناء سهر ليلة كاملة سنة 1960 حين كلفني بالذهاب إلى الأمم المتحدة للتعبير عن معارضة المغرب لدخول بلدكم حظيرة هذه الهيئة الدولية. كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي أناقش فيها أمرا من أبي قبل أن أنفذه، وقد وضع حدا للنقاش قائلا : "آمرك بالذهاب إلى نيويورك لمساندة موقف حكومتنا". وقد استجبت بالطبع لأمره دون أن أقتنع به، ولذا كنت، فيما أعتقد، خطيبا غير مقنع أمام الأمم المتحدة لأنني كنت أُدافع عن موقف لا أقتنع به، وهو أمر مخالف لطبيعتي. ثم غاب والدي فجأة وكنت ولي عهده في كل شيء، ولم يكن بوسعي بين عشية وضحاها أن أُغير موقفه وإلا لأُوِّل ذلك على أنه تنكر له ولسياسته ..." ثم اقترح الملك على مضيفه البقاء في الرباط يومين أو ثلاثة بعد انتهاء أشغال القمة الإسلامية وضعت خلالها أهم قواعد التعامل المستقبلي الذي سيفضي إلى اتفاقات سرية يكشف عنها صاحب المذكرات.
وكان من أهم الاتفاقات التي بين البلدين جرت بعد القمة الإسلامية لسنة 1969، تبادل البعثات الدبلوماسية وتبادل السفراء والتحضير للقاء الدار البيضاء في يونيو 1970 والذي انتهى بتوقيع معاهدة تضامن وتعاون وحسن جوار، وبعد توقيع البيان الختامي الذي أكد تدارس رئيسي الدولتين الوضع في الصحراء الواقعة تحت الاحتلال الإسباني وقررا التعاون الوثيق للتعجيل بزوال الاستعمار وتحرير هذه الأراضي طبقا لقرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن، ناجى الملك ضيفه : "علينا أن نحذر من الجزائريين وأن لا نشركهم في قضية الصحراء هذه، فهم الآن يقولون إنه لا دعاوى لديهم فيها، وأنهم معنيون فقط بتصفية الاستعمار منها لاسيما وأنها مجاورة للجزائر بل ومتاخمة لها، إنني أعرفهم أكثر منكم، فهم قادرون على تناسي التزاماتهم ومطالعتنا بمطالب لا يعلم إلا الله الوجه الذي ستتخذه...".
ويبقى الأهم في هذا اللقاء الذي جمع بين الطرفين بالدار البيضاء هو أن ما كان يتمنى الملك الحصول عليه لم يتحقق، حيث أن الرئيس الموريطاني لم يتنازل عن مطالب بلاده في الصحراء الإسبانية : "وفي حديثه عن الصحراء المسماة إسبانية، قال الملك في مستهل حديثه إنه كان يعتقد أن مطالبتنا بهذه الأراضي لم تكن بالنسبة لنا سوى وسيلة ضغط على المغرب لحمله على الاعتراف باستقلالنا ... والآن، وقد تحقق هذا الاعتراف بشروطكم، أعتقد أنكم لن تتخلوا عن مطالبكم فحسب، بل إنكم كذلك ستساعدوننا في طرد المستعمرين الأسبان من أرضنا..." غير أن جواب ولد داداه قد أثار حفيظة الملك : "ما فتئنا نؤكد حصولنا على استقلالنا الداخلي، ثم استقلالنا الوطني، وأن الصحراء جزء لا يتجزأ من ترابنا الوطني يتعين علينا استرجاعه وتوحيده مع الجمهورية الإسلامية الموريطانية، فالمستعمرون الفرنسيون والأسبان قد قسموا بلادنا إلى مستعمرتين هي موريطانيا الفرنسية التي نالت استقلالها، وموريطانيا الإسبانية التي يتعين تحريرها وتوحيدها مع الشطر الثاني".
بعد قمة الدار البيضاء الإسلامية وما جرى خلالها من اتفاقيات على الهامش، التقى ولد داداه والحسن الثاني والهواري بومدين في قمة نواذيبو في شتنبر 1970، وهي القمة التي لم تدم إلا يوما واحدا، كان من أهم خلاصاته تأكيد الجزائر أن لا مطالب لها في الصحراء المسماة إسبانية، إلا أنها لا يمكن ألا تهتم بتحريرها نظرا إلى أن الأمر يتعلق بأراض مجاورة، وأن كل ما تتمناه أن يتوصل البلدان الشقيقان إلى اتفاق من شأنه الإسراع بإزالة الاستعمار عن هذه الأرض، وأن من أجل تلك الغاية، فإن الجزائر تضع نفسها تحت تصرفهما لمساعدتهما على التوصل إلى حل يقبل به الجميع... وهكذا كان بعدما تشكلت لجنة ثلاثية مكلفة بمتابعة مسار تصفية الاستعمار من الصحراء الخاضعة للاحتلال الإسباني ... غير أن التنافس الجزائري المغربي الصامت أولا ثم المعلن ثانيا، شل أعمال اللجنة وأفقدها أية فعالية، وتحولت اللقاءات إلى مشاداة كلامية أصبحت شيئا فشيئا صاخبة وعنيفة، وكانت الدورة الأخيرة للجنة المنعقدة بنواكشوط في 1974 عاصفة للغاية ...
إن المثير في ميزان القوى بين المغرب وموريطانيا على الساحة الإفريقية والدولية هو أن التطورات السياسية التي حققتها موريطانيا قد تمت وهي خارج الجامعة العربية وخارج العلاقات الإفريقية العربية، فجاءت سنة 1972 وكان على ولد داداه أن يسلم مهمة الرئيس الدوري لمنظمة الوحدة الإفريقية للملك الحسن الثاني، وحضر إلى الرباط لمساعدة الملك في التحضير للقمة، فكان أن تم التوقيع على هامش أشغال القمة الإفريقية على بداية أول اتفاق سري بين موريطانيا والمغرب حول قضية الصحراء وهذه التفاصيل.
قلنا إن الملك الحسن الثاني كان يعتقد أن موريطانيا ستتنازل عن مطالبها في الصحراء بعد اعتراف المغرب باستقلالها، فلم يسئم من مطالبة الرئيس الموريطاني بذلك : " إنني - يقول الملك - باعترافي بالجمهورية الإسلامية الموريطانية، وبتنازلي عن منطقة تيندوف لصالح الجزائر، قد قدمت أقصى ما يمكن من تنازلات لا لأتمتع بعلاقات طبيعية فحسب بل وامتيازية مع جارتي المغربيتين ... وعليكم إذن أن تساعدوني يا سيادة الرئيس ..." لكن مثل هذه الخطابات المتكررة لم تكن تلق آذانا صاغية لدى ولد داداه.
وكان قبيل اختتام المؤتمر أن التقى الملك بمضيفه الموريطاني على انفراد، واتفقا بطلب من الملك، على تبادل رسائل سرية بشأن تقسيم الصحراء الخاضعة للاحتلال الإسباني إلى جزء شمالي مغربي تسكنه قبائل مغربية، وآخر جنوبي موريطاني آهل بالقبائل الموريطانية، على أن يعقد فنيين لقاء لتحديد الخط الفاصل بين المنطقتين بأقصى ما يمكن من الدقة : "لقد أعطيت موافقتي لاقتراح الملك وإن أخبرته بأن سرا مثل هذا لا يمكن أن أخفيه على أعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي الوطني، ومن جانبه قال لي أنه لن يطلع أحدا سوى الجنرال أوفقير "مؤتمن سري الذي لا أحتفظ بسر عنه" ..."، وهذا ما حدث فعلا، حيث تبادل الطرفان الرسائل التي تولى مهمة طباعتها ضابط صف "أصم كالصخرة" وحضر لحظة تبادل الرسائل الرئيس الجزائري هواري بومدين : "وكنا نحن الثلاثة سعداء جدا"، غير أن النشوة التي كانت تتملك الرئيس الموريطاني لم تدم طويلا، حيث لم يوقع الملك اتفاقية الرباط التي كان ينتظرها بومدين في الآجال المحددة، وزاد في تأجيل هذا الأمر حدوث ثاني انقلاب فاشل بالمغرب ... "وابتداء من نهاية 1972، بدأ بومدين يشك في صدق نية الملك التي لم يكن يثق بها أبدا ثقة كبيرة ... أما الملك الذي كنت أنبهه من حين لآخر مباشرة أو عن طريق المراسلة، فكان يجيبني بأن الوضع الداخلي في المملكة يستحوذ على اهتمامه إلا أنه سيصدق على تلك الاتفاقيات في أقرب فرصة ممكنة"، غير أن هناك أمورا أخرى ربما هي التي جعلت الملك يؤجل مصادقته على الاتفاقية السرية لترسيم الحدود المغربية الجزائرية.
لقد بدأ الملك يصرح لمحاوره الموريطاني علانية بأنه يتهم بومدين بتدبير عمل ما ضد المغرب بالتعاون مع إسبانيا، كما كان الرئيس الجزائري يزداد قناعة بأن الملك لن يصادق على الاتفاقيات وأنه يسعى فقط إلى كسب الوقت، وخلال تلك الفترة، ظل كل من قائدي الدولتين يعلن مآخذه على الآخر لولد داداه : "إن الأمر يتعلق بأزمة ثقة عميقة لا محيد عنها في ما يبدو ... وقناعتي الراسخة، هي أنه لو قام الملك بالتصديق على اتفاقيات الرباط بشأن الحدود الجزائرية المغربية، لما استمالت الجزائر جبهة تحرير الصحراء المولودة بالزويرات في موريطانيا لتكون نواة للبوليزاريو، وبعبارة أخرى، فإن حرب الصحراء ما كان لها أن تكون لو أن ملك المغرب صدَّق على اتفاقيات الرباط".
وكان في كل مرة يطرح فيها ولد داداه قضية اتفاقية 1972 السرية مع الملك الحسن الثاني يقدم هذا الأخير بعض المبررات التي لم تكن تقنع محاوره، من قبيل الأوضاع الداخلية للمملكة التي عاشت انقلابين متتالين، ولربما كان الملك يبحث عن الفرصة المناسبة لإخبار المختار ولد داداه بالاقتراح الذي اعتبره هذا الأخير غير متوقع، مفاده أن تتم تسوية القضية بين المغرب، لوحده ومباشرة، مع الحكومة الإسبانية أولا، ثم مع موريطانيا ثانيا :" وأُعطيكم على ذلك عهد شرف، وإلا فإن إسبانيا ستواصل اللعب على ثنائية محدثيها وتصرح لكل واحد منهم بمنطق يختلف عن الآخر" وهو الاقتراح الذي رفضه ولد داداه.
ولكي يؤكد الملك حسن نيته في الاقتراح الذي تقدم به للرئيس الموريطاني، أقدم على خطوة اعتبرتها موريطانيا سابقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، وتتمثل في اقتراح اعتراف البلدين بحقوقهما في الأمم المتحدة وبطلب هذه الأخيرة رفع القضية إلى محكمة لاهاي :" وقد أعطيت موافقتي على هذا الإجراء الذي يقدم الدليل على أنه لم يعد هناك لبس في الموقف المغربي" يقول الرئيس الموريطاني.
وفي أعقاب اجتماع قمة الجامعة العربية المنعقدة بالرباط في أكتوبر في سنة 1974، وبعدما أعاد الرئيس الجزائري هواري بومدين التأكيد على انعدام أية مطالب لها في الصحراء المتنازع عليه، انتقل المغرب وموريطانيا إلى رسم الحدود بين البلدين، وهي العملية التي باشرها الحسن الثاني والمختار ولد داداه في لقاءين متتالين وجها لوجه، بعدما تعذر الأمر على لجنة مشتركة، حيث لم يقبل ملك المغرب التنازل لموريطانيا إلا عن الكويرة وشريط ضيق محاذ لخليج نواديبو، وهو ما سيجعل الحدود تمر بدائرة العرض 22، حيث كان الطرف الموريطاني يطالب بكامل منطقة وادي الذهب تاركا للمغرب منطقة الساقية الحمراء.
وفي دجنبر التقى الطرفان من جديد، وكانت المفاوضات صعبة لا تحل قضايا إلا على مستوى الملك والرئيس مباشرة، حيث لم تفض، مرة أخرى، جلستا عمل إلى أية نتيجة، وقد كان الإشكال قائما على مستوى الداخلة، حيث قال الحسن الثاني للرئيس الموريطاني :"إن الإشكال الوحيد بالنسبة لي هو مآل الداخلة، فالداخلة هي الميناء الطبيعي الوحيد في هذا الإقليم، ولا بديل عنه من المنظور الإستراتيجي، ولابد لنظام دفاع المملكة العام من عودة الداخلة إلى المغرب، ولهذا السبب أعتبر أن الداخلة أكثر أهمية من باقي الصحراء كلها، فهناك بالطبع كثير من الفوسفاط في إقليم الساقية الحمراء، غير أن هذا الفوسفاط يجب أن يكون بالإمكان الدفاع عنه وربما تصديره يوما ما عن طريق الداخلة، لأن النظام الذي شيده الإسبان في العيون غير قابل للبقاء، فهو عبارة عن مرفأ، ولذا أقترح عليكم خط حدود عموديا وليس أفقيا يمنحكم أرضا أوسع، أي الجزء الأكبر من وادي الذهب ...".
وقد رفض ولد داداه كل تفاصيل هذا الاقتراح :" إذا كنا متمسكين باتفاقية 1972، فأجدد اقتراحي بترك إقليم وادي الذهب لموريطانيا الذي تتطابق حدوده مع خط العرض 26، ولن تقبل الجمهورية الإسلامية الموريطانية بحال من الأحوال أي حل يترك الداخلة، عاصمة إقليم وادي الذهب، خارج أرض موريطانيا. وإذا كان الأمر بخلاف ذلك، فلنوقع محضرا بعجزنا هذه المرة عن الوصول إلى حل وسنواصل مفاوضاتنا آملين أن يلهمنا الله سواء السبيل".
وبعد استئناف المفاوضات، صرح الملك للرئيس الموريطاني بارتياح وبشاشة، بموافقته حصول موريطانيا على الداخلة :" غير أن الحدود التي تقترحون غير مقبولة بالنسبة للمغرب الذي تنازل عن النقطة الرئيسة المتعلقة بالداخلة، فوادي الذهب أكبر مرتين من إقليم الساقية الحمراء" يقول الملك الحسن الثاني ناقش الطرفين مطولا والخريطة بين يديهما قبل أن يتم الاتفاق بين شطري الصحراء المتطابقة مع خط العرض 24 المار مباشرة إلى الشمال من الداخلة، وهكذا "صعد" الحسن الثاني من خط العرض 22 إلى الخط 24 و"نزل" ولد داداه من خط العرض 26 إلى الخط 24 ... وفي الغد طلب الملك من محاوره إضافة تعديل طفيف بأن يترك للمغرب بلدة بئر انزران وهضبة "ميجك" الواقعة أصلا في الجزء العائد لموريطانيا، وعلل طرحه برغبته في إعطاء مكافأة صغيرة للجيش المغربي الشديد التعلق بالداخلة، لا سيما وأن منطقة بئرر انزران و"ميجك" ذات أهمية استراتيجية مؤكدة بوصفها معبرا هاما بين جزأي الصحراء ... وهذا ما قبل به وولد داداه تفاديا للمزيد من شد الحبل كما قال في مذكراته، حيث وقعا في دجنبر 1974 اتفاقية تقسيم الصحراء، وهو الاتفاق الذي ارتأى الطرفان أن يظل سريا حتى نهاية مسار تصفية الاستعمار من تلك الأراضي.
وفي خريف 1975 بمراكش، التقى ولد داداه بالحسن الثاني ثلاث مرات لاستعراض القضية المعروضة أمام محكمة العدل الدولية ومفاوضات مدريد الثلاثية بين المغرب وموريطانيا وإسبانيا، وأوشكت هذه المفاوضات أكثر من مرة أن تفشل بفعل المماطلات الإسبانية، وتطاول مرض الجينرال فرانكو وخاصة احتضاره اللامتناهي، وخلال أحد تلك اللقاءات في أكتوبر 1975 بمراكش، أخبر الملك الرئيس بمشروعه السري بتنظيم المسيرة الخضراء وشرح له الأسباب والنتائج السياسية والديبلوماسية المتوخاة منها، واقترح عليه تنظيم مسيرة خضراء موريطانية أو المشاركة الرمزية في المسيرة الخضراء ... فرفض الرئيس الموريطاني هذا العرض وشرح الأسباب، فكانت اللقاءات الأخيرة بين الطرفين خصوصا بعد الحرب التي شنتها الجزائر على مورطانيا بواسطة مرتزقة البوليساريو، حيث كان آخر لقاء في ماي1978، شهرين قبل الإطاحة به في يوليوز 1978 في انقلاب عسكري.
إن الاتفاقية السرية التي أبرمها الحسن الثاني والمختار ولد داداه كان لها أثرها في ما بعد على العلاقات المغربية الجزائرية، حيث توقفت هذه العلاقات مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وقد كان السبب في ذلك انسحاب جزائر بومدين من المحادثات الثلاثية بشأن الصحراء في عام 1970 ببواذيبو، وقد كان بومدين يود أن ينسحب ولد داداه من هذه المفاوضات مع المغرب بعدما انسحبت الجزائر، لكنه لم يتمكن من إقناع الرئيس الموريطاني : "أعترف لك -يقول بومدين لولد داداه- أنني لم أكن أظن أن موريطانيا ستمضي في مفاوضاتها مع المغرب في غياب الجزائر، والآن وقد حصل ذلك، فإنني أرجو لكم حظا سعيدا، ولكن احذروا المغاربة، فهم قادرون تماما على "خذاعكم" لأنكم أصبحتم من الآن تفاوضونهم وجها لوجه...".
في بداية شهر يونيو 1975، بلغ التوتر بين المغرب والجزائر ذروته، فقد كان بومدين الذي التقاه المختار ولد داداه شديد التوتر ويتلفظ بألفاظ غير ديبلوماسية : "لقد بلغ السيل الزبى من طرف الحسن الثاني الذي ... والذي ... فأنا شخصيا قد غدوت ضحية لحملة شديدة القسوة من طرف الصحافة المغربية، وقد نشرت هذه الأخيرة صورة كاريكاتورية سيئة عني تبرزني بالزي العسكري وتظهرني كتوسعي وامبريالي... إلخ، وأنا لن أتحمل طويلا شتائم هذه الحملة التي ينظمها بكل عناية الحسن الثاني وأعوانه المقربون، فأنا مازلت حتى الآن أمنع الصحافة الجزائرية والإذاعة والتلفزة من الرد بالمثل، غير أنني لن أستمر في إلجامها عن الرد على وسائل الإعلام المغربية إن لم تتوقف مباشرة حملتها المغرضة ضد الشعب الجزائري وضدي شخصيا".
في هذا اللقاء، حدث بومدين المختار ولد داده لأول مرة عن جبهة التحرير الصحراوية علنية : "... بنو عمك الذين كونوا "جبهة للتحرير" في موريطانيا، قد أصبحوا يقيمون في الجزائر منذ فترة، ونحن نقدم لهم كثيرا من العون وهم يستعدون لكل الاحتمالات... إلخ" ... "وأن الوضع متفجر على طول الحدود مع المغرب والصحراء المسماة بالإسبانية، وجبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب مستعدة بدورها للرد، إذ أن الحسن الثاني قد حشد قواته على طول الحدود نفسها، وهو يخطط لمهاجمة الجزائر واجتياح الصحراء بالتعاون مع أصدقائه في الحكومة الإسبانية وبمباركة من الأمريكيين والفرنسيين. لهذا، فإن الجيش الجزائري على أهبة الاستعداد، فنحن لن نترك الحسن الثاني المدعوم من الإمبريالية الغربية يعيد ضربة أكتوبر 1963، حين انتهز الضعف المؤقت للجزائر الخارجة لتوها من سبع سنوات من الحرب الضروس مع جيش الاحتلال الفرنسي، فطعنها في الظهر، والشعب الجزائري لا يمكن أن ينسى ذلك العدوان، كما لن ينسى أن الحسن الثاني هو الذي فرض على أبيه - ذلك الرجل المحترم - أن يمارس ضغوطاً على الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية لتقبل التنازل عن جزء من أراضيها، جزء كان دائما يريد ضمه إلى المغرب... وتعلم أكثر من غيرك أن اجتياح موريطانيا وضمها إلى المغرب يشكل إحدى مراحل هذا الحلم، وبما أن الفرنسيين قد منعوه من اجتياح موريطانيا من الشمال، فقد طلب من أول حكومة للجزائر المستقلة أن تترك جيوشه تعبر من تيندوف لاجتياح موريطانيا، وقد كان بن بلة مستعداً للموافقة، غير أنني بوصفي نائبا للرئيس ووزيرا للدفاع، رفضنا بصورة قاطعة هذا المشروع الذي لن يكون مدمرا لموريطانيا وحدها، ولكن للجزائر أيضا ... وكانت هذه بعض أسباب الخلاف بيننا، أنا وبن بلة، والتي آلت إلى إحصائه من قيادة الدولة الجزائرية...".
وقد رد المختار ولد داداه،، أنه إذا كان لا يرضى من عدم مصادقة المغرب على اتفاقيات الرباط 1972، فإن ملك المغرب بدوره لا يرضى عن كونه يؤوي وينظم حركة مسلحة معادية للمغرب ولمشاريع إعادة توحيد وطنه في الصحراء المسماة بالإسبانية، فأجابه الرئيس بومدين : "... أعرف تلك الأغنية التي يرددها الحسن الثاني على مسامع من يصغي إليه، إنه يريد إبرام صفقة معي تقضي بأن أتخلى عن البوليساريو مقابل تصديقه على اتفاقية ترسيم الحدود ! غير أنني لن أبرم معه أي صفقة لسببين اثنين، أولهما أن لا شيء يضمن لي أنه سيحترم هذا التعهد مادام لم يحترم تعهده السابق، وثانيهما أن إيواء البوليساريو ومساعدتها على تحرير وطنها نابع من مبدإ ثابت في السياسة الجزائرية هو مبدأ دعم كافة حركات التحرر التي تناضل من أجل استقلال بلدانها".
ويستخلص ولد داداه من هذا الحوار الثنائي الذي دام أكثر من 7 ساعات خلال يوم واحد، أنه مقتنع بأنه لو صادق ملك المغرب على اتفاقية الرباط في 1973 أو 1974 ما كان للرئيس الجزائري ليشجع إنشاء حركة البوليساريو كإجراء انتقامي من المغرب، وما كانت حرب الصحراء لتقع، بل كانت اتفاقية التقسيم الحل النهائي لهذا المعضل لكن "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" يقول ولد داداه.
لقد حاول الرئس الموريطاني - حسب ما يحكيه في مذكراته - أن يخفض من حدة التوتر الذي بلغ ذروته بين الملك المغربي والرئيس الجزائري، فحاول أن يتسلم من مضيفه بومدين ما يمكن أن يبلغه للحسن الثاني، لكن هذا الأخير ردَّ غاضبا : "... لا أحملك أي رسالة إليه، فليس لدي ما أقوله، غير أنه ينبغي أن يعلم أنه إذا ظل يتحداني فسوف أرفع التحدي...".
من بشار التي التقى فيها الرئيس الجزائري، إلى العاصمة الرباط حيث كان الملك الحسن الثاني هادئ البال، فأخبره بالامتعاض الشديد الذي يحسن به بومدين جراء حملة الصحافة المغربية، فكان رد الملك كالتالي : "... إنها حملة تشنها صحافة المعارضة ولا سلطة لي عليها، ثم إن الشعب المغربي عموما، والنخبة السياسية منه خصوصا، غاضب جدا من عدم عرفان الجزائريين بالجميل، وبومدين منهم بالذات، فلا أحد في المغرب ينسى التضحيات التي قدمت لدعم المحاربين الجزائريين ومساعدتهم، ولا العدد الكبير الذي مات من المغاربة على طول الحدود المشتركة بين البلدين من أجل القضية الجزائرية ... وعندما يتذكر المغاربة كل ذلك، ويعلمون أن بومدين نفسه بدأ ينظم ما يسميه حركة مسلحة صحراوية لا لمنع استعادة الأراضي المغربية التي كانت قد اغتصبتها إسبانيا فحسب، بل ليحارب بها أيضا المغرب بدعم من الجيش الجزائري، فإن هؤلاء المغاربة عندما يعلمون كل ذلك، سيخرجهم الغضب عن رشدهم...".
ثم أضاف الملك : "لقد أخبرتكم منذ أكثر من سنة أن بومدين لم يكن في يوم من الأيام وفيا معي، وهو يريد بهيمنته أن يمنع المغرب من استعادة أقاليمه الصحراوية التي كانت تحت الاحتلال الإسباني، ونظرا لمعاداته المغرب، فإنه يفضل الإبقاء على الاستعمار الإسباني في الصحراء بدلا من تحقيق المغرب لوحدته الترابية، وهو أمر مغاير لتصريحاته المناهضة للاستعمار، غير أنه لا يستطيع الفكاك من عدائه المتأصل لبلادي، إنكم لم تصدقوا ما قلت لكم منذ أكثر من سنتين حين أخبرتكم أن بومدين يعمل على إنشاء حركة سيسميها "حركة تحرير الصحراء" بثمالؤ مع ليبيا واعتماداً على وسائلها المالية للحيلولة دون تنفيذ اتفاقنا الثنائي... وإذا سمحتم، فسأنظم لقاء بينكم وبين قادة التنظيمات السياسية في المملكة، فإنه سيخبرونكم جميعا بأن موقف بومدين وعداءه المتأصل للمغرب قد فاجأهم وأغضبهم وترك أثرا سيئا في نفوسهم...".
إن الأهم في هذا اللقاء الطويل الذي جمع الملك بالرئيس الموريطاني هو تلك الرسالة السياسية التي حاول الحسن الثاني إيصالها إلى بومدين عبر ولد داده "سيد المساعي" الوحيد بين الوحيد بين الملك والرئيس.
فقد كان الملك يحس بأن بومدين لا يعامله بنفس المعاملة، خصوصا على مستوى البعثات الديبلوماسية التي بعث بها الملك لبومدين عشرات المرات دون أن يردَّ عليها بومدين بالمثل، ثم إن الحسن الثاني كان متذمرا من اعتبار ما تقوم به الجزائر بالصحراء وكأنه شبيه بما تقوم به أمريكا في الڤيتنام : "... وهذا الأمر يؤلمني إيلاما لا حد له... فكيف له أن يقارن بين حركات تحرر تحارب بشرف وصدق ضد الإمبريالية والاستعمار ونظام لابارتايد، بما يدعوه حركة تحرر أنشأها بنفسه لمحاربة المغرب ومنعه من تحقيق وحدة أراضيه؟" يتساءل الحسن الثاني الذي بدا متأثرا بالفعل على حد قول ولد داده.
وفي الطريق إلى المطار، أخبر الحسن الثاني ضيفه الرئيس الموريطاني أنه أمر بمصادرة عدد هذا الصباح من جريدة "الرأي" الذي تضمن بالفعل هجوما عنيفا على الجزائر ورئيسها كي يكون مرور ولد داداه بالجزائر مثمرا، ولإعطاء دليل على حسن نيته : "... وأتوقع ردود فعل عنيفة لا من حزب الاستقلال وحده، وإنما من كل المعارضة المجمعة على امتعاضها من الجزائر ورئيسها، ولكنني سأواجه ذلك شريطة أن يبدي بومدين بعض حسن النية هو الآخر"، فكيف كان رد بومدين أثناء لقاءه بولد داداه؟
لقد اعترف بداية أنه أخطأ عندما لم يكن يرد زيارات البعثات الديبلوماسية بمثلها من القادة الجزائريين، وصحح هذا الخطأ عندما أرسل عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية آنذاك للقاء الحسن الثاني، ويضيف الرئيس الموريطاني، أن اللقاء الذي جمع بوتفليقة بملك المغرب كان مهما وأثمر إصدار بيان مشترك اختيرت كلماته بعناية ودقة، لدرجة أن بوتفليقة كان يتصل بالرئيس بومدين لإخباره بكل جديد في شأن البيان، وقد أشار البيان، مرة أخرى، إلى عدم وجود أي أطماع للجزائر في الصحراء الغربية والعمل على تعزيز أسس التعاون بالمغرب العربي...
لكنه في صيف 1975 عاد التوتر ليصبح السمة الغالبة على العلاقات الثنائية بين الجارين وبصفة جذرية، حيث هاجم رئيس الوفد الجزائري موريطانيا أثناء اجتماع وزراء الخارجية بالعاصمة الأوغندية لإعداد قمة منظمة الوحدة الإفريقية، وقد تفاجأ الجميع من هذا الهجوم الذي كان يوجه عادة للمغرب، واتهم موريطانيا بتنكرها لمواقفها من الصحراء الخاضعة للاستعمار الإسباني.
وتلا هذا الهجوم العنيف، إمعان الرئيس الجزائري في عدم استقبال ولد داداه -كما جرت العادة والعرف- على هامش انعقاد القمة في شهر غشت 1975، لكن هذا لم يمنع من دعوة بومدين الرئيس الموريطاني للقاء به في شهر نونبر من نفس السنة ببشار، حيث دامت النقاشات التي كانت ثنائية عدة ساعات وهذا أهم ما جرى فيها.
لقد اتهم بومدين الحسن الثاني الذي يمارس أعمال الهدم في العلاقة بين موريطانيا والجزائر، و تلا عرضا مطولا عن النزعة التوسعية للمغرب في المنطقة، ثم لام موريطانيا التي ترغب في توقيع اتفاقية في مدريد لتقسيم الصحراء بين المغرب وموريطانيا، كما يقتسم قطيع من الغنم أو الإبل، واعتبر أن موريطانيا غيرت من موقفها بخصوص حق تقرير مصير الشعب الصحراوي ... فكان أن رد ولد داداه أن الاتفاق الذي يناقش في مدريد ليس سوى تجسيد وترسيم للاتفاق الذي سبق أن باركه وتبناه مرتين في الرباط، أولاهما في يونيو 1972، وثانيهما في أكتوبر 1974 أمام جميع رؤساء الدول الأعضاء في الجامعة العربية.
أما بخصوص تقرير المصير، فقد أوضح ولد داداه أنه طالما ساند هذا المبدأ، غير أن تطبيقه لا ينبغي أن يشمل غير الصحراويين الأصليين، وأن تطبيق هذا المبدأ يجد مشاكل قوية، ثم إن الاتفاق الثلاثي الذي يتم التفاوض بشأنه في مدريد ينبغي أن يتضمن شكلا مناسبا من أشكال استشارة السكان وأخذ رأيهم في نهاية المطاف...
وعلى الرغم من ذلك، فقد أصر بومدين أن تنسحب موريطانيا من مفاوضات مدريد وألا يوقع بالتالي تلك الاتفاقية التي يجري إعدادها، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة بالنسبة لموريطانيا ولولد داداه...
وعلى الرغم من هذا التهديد المبطن، فقد تابع بومدين قائلا : "إحذر يا مختار ! فموريطانيا بلد هش لديه مشاكل داخلية خطيرة، وحدود تمتد آلاف الكيلومترات لا يمكنها أن تحميها بنفسها في حالة حدوث نزاع مسلح، ومصلحتها إذن في أن تبقى حيادية وتتابع لعب دورها الديبلوماسي البالغ الأهمية بين الجنوب والشمال، ذلك الدور الذي لا يتناسب بالمرة مع وزنها الخاص، وإذا كانت ماتزال تخشى بحق من النزعة التوسعية المغربية، فبوسعها أن تعول على الجزائر لمساعدتها في الدفاع عن نفسها، ومهما يكن من أمر، فإنه لا ينبغي لها أن تسمح للمغرب بجرها إلى مغامرة قد تكون ضحيتها الأولى مادامت الحلقة الأضعف في المنطقة. وعلى أي حال، فإن الجزائر لن تقبل أبدا تحقق ذلك المخطط الميكافيلي الذي يعد له الحسن الثاني بشبه تواطؤ مع إسبانيا الاستعمارية الفاشية، ولن تفرط أبدا في مصير الشعب الصحراوي الذي يكافح من أجل استقلاله، وإذا لم يكن ذلك كافيا فإنها ستلجأ إلى التضامن الثوري العالمي لجمع 50 أو 60 بل و100 ألف مقاتل من أجل الحرية لمنع المغرب من سحق الشعب الصحراوي دون رحمة واستعمار وطنه"...
بقلم: الوزير المغربي الراحل العربي المساري