لا شك أن طريق الصراع بين الحرية والعبودية طريق محفوف بالدماء ويتخلله الكثير من الآلام وهنا يحضرني قول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: "إن الصراع بين الحريّة والعبوديّة صراع قديم في تاريخ الإنسانيّة، وفي سبيلها تدفع الشّعوب طائعة راضية أكرم شهدائها وأنفس أموالها".
وممّا لا ريب فيه أنّ الحريّة مطلب أساسي لكل فرد "متى استعبدتّم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا، وكما أنّ لكل عمل نقوم به قاعدة نستند عليها وننطلق منها، فإنّ الحراك الثّوري الشّعبوي المطالب بالحرية هو القاعدة الأولى التي تنطلق منها النّخب الفكريّة والثّقافيّة والسّياسيّة بمختلف طوائفها وشرائحها حتّى تكون الممثّل الرئيسي لمطالبهم في المحافل الدّولية، وما هذا الحراك الثّوري إلاّ الشّرارة الأولى على بداية نهاية أيّ ظالم مستبدّ والمشعل الذي لا تخبو جذوته إلا بغياب مثل هؤلاء النخب.
ومثل هذا الحراك بدون نخب تلهمهم، وتضع الخطط اللاّزمة لمسيرهم والأجندة الخاصّة بمطالبهم؛ كمثل السفينة بلا ربان يمسك بدفّتها ويوجّهها إلى مسارها الصحيح كلما حادت عنه قليلا.
وبالتالي ندرك أنّه لا حريّة حقيقيّة بدون شعب ثائر تستمدّ تلك النخب من إرادته وإصراره على السير في تحقيق مطالبه حتى الرمق الأخير القدرة على الصمود والمجابهة، فإنه لا حريّة مكتملة أيضا بدون نخب تقود تلك الشعوب باتجاه تحقيقها ونشر مبادئها والوعي بمطالبها لتذلل بذلك كافة المطبّات التي ستواجهها في مسيرها، وتوصل رسالتها مسلّحة بإيمان راسخ بهذا المطلب وحقّهم فيه؛ وعليه لا يستقيم مثل هذا الحراك بدون التقاء مطالبهما معا.
وكما أن وجود مثل هذه النّخب في السّاحة الثّورية ضرورة لا بدّ منها، فهو لا ينّفك يمثّل في الوقت نفسه الشرّ الأكبر والنّقمة الأولى من كلّ فرد يسعى لحريّته وشعب يطالب باستقلاله؛ ولا يعزى ذلك إلى انعدام أو غياب ذخيرتها الأكاديميّة والفكريّة وإنما لعدم تمثيلها مبادئ الحرية بشكل صحيح ولغفلتها عن طعمها والتّضحية في سبيلها.
فها هنا واقعنا الحالي يضرب لنا الأمثال عن نماذج خرجت لتمثّل شعوبها في المحافل الدّولية من كل حدب وصوب، ولكنّها تفرّقت في قلوبها وأهوائها ونواياها، وبعدت كل البعد عن الشّعور بالشّعب الثّائر الذي قبل بها لتكون مرشده وضالّته في هذه المحافل وتلك، فنرى بعضها ما يزال يرزح تحت وطأة الاستعمار الفكري ونير العبودية.
وهو ما يستحضر لنا قول مصطفى محمود رحمه الله في مثل بعض تلك النخب التي رثت ستالين قائلة في وفاته ومتمسكة بأيديولوجيته "طبت حيّا وميّتا يا رفيق" فأيّ عبوديّة فكريّة تلك التي تقبع في أذهانهم وأيّة أفكار تلك التي يتغنّون بها؟
غير أنّ هذا بدوره أيضا لا يبعدنا كثيرا عن الشّعب الذي ما يزال بدوره يحمل ذلك الثّقل المتحجّر من التّفكير والإرث الثّقيل الذي تركته في عقولهم عقود الاستعباد وتضييق الحريات التي لم يعتد عليها بعد، ولم يرض في ذات الوقت أن يمنح نفسه الفرصة لنيلها.
حتى باتت بعض فئاته عندما تخاطبها تحسب أنّها تشرّبت كتب القوميّة الاشتراكية، فسمحت لنفسها المشاركة في بداية الحراك الثّوري إرضاءً لغرورها وتماشيا مع مطالب الحريّة حتّى لا تكون ممن استمرأت العبوديّة ظاهريّا فقط أو تنفيذا لأطماعها الشّخصية، فاستغلّت عاطفة الشّعوب الثّائرة من أجلها وجعلت منها وقودا لنار كبيرة لا تبق ولا تذر في سبيل تحقيقها، فحادوا بذلك عن ركبها بدعوتهم إلى تحسين شروط العبوديّة التي إن استحكمت أعادت الشّعوب إلى زريبة الطّاعة مرة أخرى.
وهؤلاء ممّن يوصفون بالرماديّة الذين لا لون لهم وممّن قيل فيهم "لو أمطرت السّماء حريّة لرأيت العبيد يحملون المظلات" والفئة الضالّة التي ينبغي اجتثاثها من جذور التّخلف القابعة في أذهانها بنخب واعية مثقّفة قادرة على إيصال مفهوم الحريّة الصحيح إليهم.
تلك هي الحريّة السّياسيّة التي ما تزال كثير من الشعوب تناضل من أجلها، ووراء هذه الحرية حريات كثيرة تسعى الأمم الواعية لتحقيقها متمثّلة بحريّة الفكر والعلم، وحريّة الحكم والإدارة، وبالتالي هي نتاج وعي أخلاقي وفكري واقتصادي واجتماعي وسياسي، وتضافر لجهود شعبها ككل بجميع فئاته في سبيل إنجازها، وهي أولا وأخيرا تطور لإنسانيّة طالبيها.
فمتى وجد هذا الوعي ووجد الزّخم الشعبي المكافئ له وجدت الحريّة بأبهى صورها؟
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية