
تتجه المنطقة والعالم الى مزيد من التوتر والصراعات والتمحور والإصطفافات .. وإلى مزيد من الخداع والتنسيق والتشاور والإتصالات ..
بوتين وترامب يتفقان أو يبحثان ( بحسب المعلن ) جملة امور ، منها ملفات أسلحة الدمار الشامل والمفاعل النووي الإيراني وليبيا ، ومن الموكد أيضا الملفات السورية وضمنه سرقة أمريكا للنفط والغاز السوري ما يوفر لها 45 مليون دولار شهرياً ، وهو ما يكفي لإستعادة الليرة السورية قيمة صرفها ، وغير ذلك من الملفات الساخنة، كالتصعيد الأمريكي ضد الصين الذي ينذر بحرب ، لن تقتصر إن نشبت على الدولتين أمريكا والصين ، وإنما ستمتد ألسنتها لتشمل دولاً وشعوباً أخرى .
ويظهر التصريح الروسي اللاحق للمحادثات بأن واشنطن لن تقدر على إفساد علاقات الصداقة الصينية الروسية .. ما يعني أن ترامب حاول فعلا تحييد روسيا ، في الحرب القادمة ، ترامب يراوغ في محادثاته مع بوتين ؛ الذي تبدي ملامح وجهه بساطة حد ( السذاجة ) بقدر ما يخفي من حنكة ومحاذرة وقدرات على استنفاذ الفرص ، غير ظاهرة .. !؟ فيما أفعال الإدارة الأمريكية غاية في الخبث .. ففي الوقت الذي كان ترامب يتباحث مع بوتين ( الهاديء المسالم ) كانت طائرات التجسس الأمريكية تمارس مهامها التجسسية (المشروعة) فوق البحر الأسود في ذات اليوم وسابقه واللاحق به ، بينما بدأت تركيا التنقيب عن النفط في ذات المنطقة ، بحماية طائرات أمريكية بالتزامن .
أفهم أن الرئيس فلاديمر بوتين يُنضج " طبيخه "على نار هادئة ، وأنه لاعب سياسة مميز، وأن السياسة لا تتخذ خطاً مستقيما دائما ولها تعرجاتها واعتباراتها وحساباتها ، وتحالفاتها ومصالحها وخطوطها الحمراء وغير الحمراء و( الليلكية) ..
وأفهم أن ( ابو علي بوتين ) .. حيّد أو روّض اردوغان غير مرة في حلب الشرقية ومنطقتي الغوطة الشرقية وجنوب سورية ونواحٍ أخرى ، فأمكن بيسرٍ نسبي من تحرير هذه المناطق من أيدي عصابات الإرهاب وحشرالإرهابيين في محافظة إدلب ( هرمجدون الإرهاب ) القادمة ..
كما أفهم صمت واعتبارات بوتين ( إلى ما قبل الأسابيع الأخيرة ) تجاه المستعمرة الإسرائيلية وتجاه ذاك الفاسد الموغل بالخداع ؛ نتنياهو .. فقد صمتت تل ابيب عند تحرير الجنوب على نحوٍ غير مسبوق .. لكي ( تزوبع ) غضب الرجل بوتن الذي صبركثيرا على (نطنطات ) الفاسد المخادع .
لا بد أن بوتين يتمتع بروحية النفس الطويل والهدوء الممعن حتى الضجر من قبل من لا يرقب الصورة بتمعن ، ولكن من المؤكد أيضاً أن لبوتين مقاييسه الخاصة فروسيا الاتحادية ليست جمعية خيرية ، لها مصالحها ولها شعبها الذي يحاسب ، رغم الصلاحيات الكبيرة الممنوحة له والنجاحات المتحققة .
ولروسيا حجم من الأعداء كبير يتربصون بها الدوائر ، وفيها من الروس اليهود ملايين ؛ منهم الوطني المخلص لبلاده ؛ روسيا ، ومنهم من يدين لتوجيهات المستعمرة الإسرائيلية ولـ المنظمة الصهيونية العالمية ،
ليس مطلوبا من روسيا الاتحادية أو الرئيس بوتين أن يقاتلا بالنيابة عن سورية ، أو بالنيابة الشعب الفلسطيني الخ ، سواء تجاه تركيا التي تحتل اراض سورية وعراقية وليبية ويمنية وصومالية ، وما تزال تدعم العصابات الإرهابية ، ( وتتوسط لإستقدام المتطوعين للقتال على حد تعبير مدير الإستخبارات التركية السابق في حوار على فضائية RT .. لكي لا يقول المرتزقة ) ,
وليس كذلك مطلوبا منها تحرير الجولان العربي السوري المحتل من قبل المستعمرة الإسرائيلية .. ولكن مطلوباً من الاتحاد الروسي أن لا يتيح تفوقاً عسكرياً سواءً كان تركياً أو إسرائيلياً ولا حتى أمريكياً ..
ومثلما لروسيا مصالح في تركيا أو معها ، فلتركيا كذلك مصالح في روسيا ومعها .. وذات الشيء ينطبق على المستعمرة الإسرائيلية ومع الولايات المتحدة ، بدليل أنهم جميعهم ترامب وأردوغان ونتنياهو ، رغم الشدّ الحاصل والخداع .. والكذب الممنهج من ثلاثتهم ، إلا أن موسكو تحاشت أكثر مما ينبغي الإصطدام معهم ، وبقي السلاح المتوفر لدى المستعمرة الإسرائيلية وتركيا أكثر تقدما مما هو متوفر لدى الدولة الوطنية السورية .. ما يمكن أنقرة من الإبقاء على احتلالها للأرض السورية ودعم العصابات الإرهابية .. وفي آن بما يمكن تل ابيب من الاعتداء على سورية كلما ضعفت العصابات الإرهابية واحتاجت أنقرة للتخفيف عن جبهتها ..
أما الولايات المتحدة الأمريكية فيصبح وجودها مكلفاً ، عندما تخسرأنقرة وتل أبيب وجودهما، وتضطر للرحيل، أي إنها ستصبح في حالة مواجهةٍ مباشرة مع كل من حلف المقاومة وأصدقائه أي سورية وإيران وحزب الله وروسيا الخ .
لقد ناور وكذب ولم يلتزم اردوغان بتعهداته تجاه روسيا وإيران مراراً ، بل وتصرف نقيضها ، ما أضعف في المقابل موقف روسيا تجاه الرأي العام العربي وتشكك كثيرون بمدى تغليبها لمصالحها التكتيكية على حساب الموقف الإستراتيجي المبدئي ، وسادت اشاعات المشككين والمرجفين ، ما استدعى موسكو رسمياُ لنفيها ، وهي صادقية بغير شك في ذلك ، لكن لا بد من موقف أكثر حزماً وحسماً ، إن موقفاً روسياً أكثر التزاماً سيحظى بدعمٍ عربي شامل استثني منه الصومال وقطر .
أما بالنسبة للروس الذين يدينون باليهودية ، فلا بد أن من بقي منهم في روسيا هم أكثر إنتماء لروسيا ؛ الوطن، ويمكن تحويل القلق الناجم عن أزمة وجودهم إلى فرصة لإستثمار هذا الوجود للضغط على الإسرائيليين من أصول روسية لتحجيم التطرف لدى قيادات المستعمرة الإسرائيلية وجماعات اليمين المتطرف والحاخامات الذين يعيشون خارج العصر ويجرّون مستعمرتهم الى التهلكة .
تعيش أنقرة وتل ابيب وواشنطن حالات متشابهة ، حيث تشتت قدراتها خارج رقاع سيطرتها ،ويتم تركيم الأعداء والأزمات وتعقيد الحلول، وتنصبّ الاهتمامات على الهيمنة والقمع وينتشر فيها الفساد.. وتشتد الخلافات بين أركانها ، وهي مستلزمات تدول بتوفرها الدول والكيانات ؛ ما يرسم نهايات بائسة قريبة لها.
محمد شريف الجيوسي
