العفو السيدة الرئيسة و الأخت العزيزة
انك تذكرين الزمن الجميل للقضاء المغربي و تذكرين يوم كان القضاة يميزون بما يطرزون من حيثيات و ما يتفوهون بهم من مرافعات و كانت قاعات المحاكم هي الشاهد الذي لا تخطئ شهادته في الرفع من قيمتهم أو الحط منها ، يوم كانت المرافعات كما عبر عنه استاذي الجليل الاستاذ العطواني جدار للقانون و الإجتهاد تضفي على صاحبها هذا الوصف .
يوم كان يتجمع القضاة و القاضيات و المحامون و المحاميات في القاعات انتظارا لمرافعات كبار المحامين و القضاة و الى المنازلات القانونية الرفيعة حيث كانت القاعات منابر للتكوين المستمر الحقيقي و كان للمترافع نصيب من التهاني عقب كل مرافعة من جميع زملائه محامون و قضاة و رجال فكر و علم ، و كانت الصحافة الوطنية ترصد كل ذلك بموضوعية مهنية قل نظيرها و احترافية رغم اختلاف وجهات النظر العامة التي لم تكن تفسد للود قضية و مع ذلك كانت التعليقات تنصب في غالبها على القانون و ليس على الأشخاص، لقد دونت جزءا من هذا التاريخ المجيد للا بشرى في مذكراتي عسى الأجيال الجديدة أن تطلع عليه قبل الحكم على تاريخ قضائنا المشرف الذي يحاول البعض مع الأسف الإساءة و النيل منه و لكن هيهات هيهات و مازال في المهنة رجال و نساء من عيار ثقيل و معدن أصيل كمعدن تعليقاتكم و مروركم أعلاه انت و باقي جهابذة القانون و الأعزاء و العزيزات من الزملاء و الزميلات و الأصدقاء الذين ذكروني بذلكم الزمن الجميل الذي قال فيه الشابي
زمن كالربيع حل و زالا
ليت أيامه خلقن طوالا
يحسب المرء انه زمن الهم
و ما الهم يعرف الأطفالا
و شهود العصر في هذا الفضاء الأزرق الذي من جملة حسناته التعريف بالحقيقة بعيدا عن كل لغو و مصلحة آنية و مباشرة العواطف بكل مصداقية و هي حسنة من حسنات هذا العصر كذلك .
كم كنت اتمنى آنذاك أن يكون لهذا الفضاء وجود حتى ينقل تلك الدروس التي حاولنا في فترة تدريسها في المعاهد القضائية و الكليات كي تتشبع بها الأجيال الجديدة .
و كم كانت تعجبني عبارة كان يتفوه بها أحد كبار المحامين عقب كل محاكمة كبرى التي كانت تستغرق الشهور و في النهاية كان يسمي محاكم البيضاء بأنها ام القرى القانونية حيث كان شعراء عكاظ يأتون إليها بأجمل و أرق الأشعار ليتباهوا بها في المجالس و القبائل العربية .
كذلك كانت أم القرى عندما كانت تنصف من محكمة النقض و اية محكمة آنذاك عندما كانت اجتهادات القضاة و مذكرات المحامين بها تدرس في الكليات و كانت فعلا تسد الثغرات التشريعية
أين منا فعلا تلك المجالس
و أين منا أولئك الفقهاء الذين كانوا رهبانا متفرغين في محارب القانون و الإجتهاد
و الذين تعلمنا منهم الكثير و لا زلنا نتعلم بمجرد الاطلاع على مرافعاتهم و اجتهاداتهم.
أين منا فعلا تلك التقاليد حينما كنا في منصات الأحكام و نرى قامات قانونية و نقباء من المحامين الذين كانوا رؤساء لحكومات و مستشارين ملكيين و ووزراء للعدل و رجال فكر و صناعة القرار يغادرون قاعات المحاكم و لا يعطون بظهورهم للمنصة القضائية و يتوارون بأدب كبير احتراما لتقاليد المهنة و امتثالا لهيبة القضاء كي لا يكتب عليهم يوما بأنهم غادروا مجلس القضاء بطريقة مخلة لآداب التقاليد القضائية و هم يرسخون لأعراف مهنية أصيلة ما أحوجنا اليوم إليها.
لقد كان كانت يقول :
شيئان يثيران في نفسي الإعجاب و الاحترام
السماء ذات النجوم من فوقي
و القانون في داخلي
فعلا أشياء تثير الإعجاب في الإنسان كما يثيره الجمال و الحقيقة
يقول باولو كويلو في روايته الجبل الخامس :
كانت مؤلفات الإغريق تكتب على جلود الحيوانات التي تعد ركيزة واهية لحفظ الكلمات .
فالجلد يقل مقاومة عن لوح الصلصال و تسهل سرقته .أما البردي فيتلف بعد مضي فترة من الوقت على استعماله ، و يمكن تفتيته بالماء .
الرق و البرذي سريعا الزوال ، و حدها الواح الصلصال معدة للخلود .
نعم إن التقاليد المهنية الأصيلة التي عشناها هي المعدة للخلود في المهنة كألواح الصلصال و هي ما تحاول رابطتنا أحيائها في نفوس القضاة و القاضيات و اظن انه بمساهماتكم الفكرية في نشاطاتها ستضمنون الخلود لتقاليد مهنتنا و إرجاع هيبتها حتى تكون في مستوى طموحات جلالة الملك محمد السادس في خدمة المواطن المغربي الذي هو أهل لهذا الخلود و هذه التقاليد التي تخدم عدالة بلاده .
مودتي لكم جميعا .
مذكرات نور الدين الرياحي 26 8 2016