ضمن قرار باسم المفتشية العامة للدولة وبأمر من الوزير الأول يحي ولد حدمين منعت الصحافة المستقلة من كافة أوجه الاشتراكات والإعلانات والتكوين لدى الدولة الموريتانية.
ترى كيف نفهم هذا القرار، هل هو سياسي متبرم من خط الإعلام المستقل الموريتاني، وجرأة بعض أقلامه، أم هو عجز وتقشف، أو تخل عن مفهوم الدولة، عبر استبعاد دعم وجه هام من أوجه المشروع الديمقراطي المحلي، لصالح تكريس حكم العصابة، ليتجلى باختصار أننا نحكم بأسلوب المزاج والهوى، وليس أسلوب الدولة والصالح العام.
أظن أننا ينبغي أن نبحث عن تفسير هذا القرار الغريب المانع لدعم الصحافة في هذه السياقات والتساؤلات، عسى أن نصل إلى كنه هذا التصرف المريب بحق.
وبغض النظر عن الخلفية الحقيقية لهذا القرار، يبقى التنبيه إلى أن منع الصحافة من العون المالي، الضروري للقيام بمهامها الجوهرية النبيلة، قد يعني باختصار، وقف ركن أساسي من أركان الديمقراطية الموريتانية المتعثرة باستمرار.
ويكرس واقعا إعلاميا باهتا ضعيفا بامتياز، قابلا للذوبان تدريجيا تحت وقع الفقر والفاقة بالدرجة الأولى.
في عهد الرئيس السابق معاوية كانت الصحافة من الناحية المالية في وضع مقبول بامتياز، وكانت حتى الصحافة المعارضة غير محرومة إطلاقا من الدعم الواسع، رغم تمييز بعض العملاء المعروفين وقتها، وعموما الجميع يتنفس.
أما اليوم في ظل حكم عزيز بوجه خاص، ورغم أن الدولة – من قطاع المعادن مثلا – استطاعت جني مداخيل معتبرة، ومن غيره من مصادر السيولة، إلا أن الصحافة كانت المتضرر الأكبر، خنقا ماليا صريحا، متواصلا متصاعدا.
اللهم قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق.
كانت المادة 11 موجودة، لكن لم يسجن قط صحفي، ولم يحرم من قوته، واليوم حذفت تلك المادة المثيرة للجدل، وجاء قانون مراقبة مجتمع المعلومات(م.م.م) الأكثر تشددا وإثارة، وأغلقت حنفية الدعم عبر قرار رسمي، مثير فعلا للجدل.
وهذا في نظر البعض غير مستغرب عند العارفين بولد عبد العزيز وحاشيته وأسلوبه في الحكم، الذي ظل يبتعد تدريجيا عن أسلوب الدولة ويكرس، في نظر البعض، أسلوب العصابة والتخبط.
بل يذهب البعض إلى أن النظام القائم يستغل عصا التجويع ويطبق شعار "التجويع من أجل التركيع".
ما دعم به رجال الأعمال في عهد معاوية الصحافة، كان لوحده كافيا لتمويل القطاع، أما بعض تجار عزيز فيفضلون التهديد والتضييق.
بدأ ولد بن احميده المشوار عندما كان محافظا للبنك المركزي، فمنع مخصصات الصحافة، وأكملت حكومة عزيز هذا المشوار في عهد ولد حدمين، مطلع هذا العام، بقرار رسمي، يمنع أي دعم للصحافة.
أية أرض هذه يجمع أصحابها على الحصار والخنق، وهل هذه دولة أو ملك خصوصي، يرحم المتنفذ فيه من يشاء ويحرم من يشاء.
لا يمكن تصور إعلام حي دون وسائل مالية، إنها نهاية حقبة الإعلام المستقل ودخوله مرحلة الموت السريري وانتظار ساعة إعلان النهاية، إن لم يتدارك هذا الوضع المأساوي الصارخ.
كان الرئيس السابق معاوية لا يسافر إلا ومعه جيش من الصحافة، ويكرمهم ويشركهم في الأمر، وكان يدعو رجال الأعمال ـ أحيانا في بعض محطات زياراته(بلدية تيفوندى سيفي بولاية كوركول) إلى الاستثمار في القطاع الإعلامي.
أين هذا من وضعنا الراهن؟ وهل من معنى للتخلي عن باب دعم الصحافة، وإن كان يوزع بطريقة غير عادلة.
إن التراجع عن هذا القرار الجائر ضروري وملح، وإلا سيفسد، إلى حد بعيد، هذا القطاع الهام، الذي ساعد، رغم كل ما يقال عنه، في محاربة الفساد وأوصل الكثير من المعلومات والأخبار والآراء المتنوعة، لكافة من يهمه الأمر في الداخل والخارج على السواء.
وإنني موقن بأن الدولة إذا كانت موجودة ستراجع نفسها بسرعة، أما إذا كان حكم العصابة هو الأعلى والأرسخ، فلننتظر ربما قرارا أشنع وأضرَّ بهذا القطاع الحساس.
توصيات الأيام التشاورية لم تنل من الطرف الرسمي ما تستحقه حتى الآن، وما بقي من الصحافة المستقلة تحت الحصار.
إنه عام الرمادة، فلعله ظرف لا يجوز فيه الحديث عن أخلاقيات المهنة، قال الله تعالى :"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم".
أشكر رابطة الصحفيين الموريتانيين ومنتدى المعارضة واتحاد الصحفيين العرب على الاهتمام بهذا الأمر ورفض هذا الظلم البين، وأدعو جميع المعنيين، معارضة وموالاة، لمؤازرة الصحافة، عسى أن يرفع عنها هذا الحيف البالغ.
ويحسن بكل شريف رفع رأسه وقول "لا" لهذا الطيش العبثي.
إنه قطاع يعاني بصورة عميقة، وضرب من جهة الحكومة الحالية منذ مطلع هذا العام، بصدور هذا القرار الأحمق غير المفهوم.
وسنكرر دائما المثل العربي الحكيم، على وجه التنبيه والتحذير قبل فوات الأوان: "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق".
فقطع الأرزاق أحيانا أشد إيلاما ووقعا وتأثيرا من قطع الأعناق، وفي حساب الأحرار بوجه خاص.
الصحافة تريدها الدولة أن تكون مهنة من لا مهنة له، ضعيفة غير مستقلة حتى لا تغير منكرا، ولا يمكن الحديث عن صحافة مؤثرة معتبرة، دون استقلالية مالية ودعم ذي بال غير مشروط، يمنع من الوقوع في مهاوي التسول والاسترزاق البذيء، ويعزز سطوة القلم الحر والكلمة الطيبة الجامعة المتوازنة.
بقلم عبد الفتاح ولد اعبيدن