أهمية التراث العربي معرفيًا وتقنيّا وحضاريًّا

جمعة, 11/13/2020 - 15:20

التراث العلمي العربي يشمل جزءًا كبيرًا من التاريخ العلمي والحضاري فيما يخص الحضارة العربية الإسلامية ودورها الرائد في مسيرة الحضارة الإنسانية، بشهادة المنصفين من المؤرخين، لكن بعض المنظرين يغفلون هذا الدور العربي الإسلامي الرائد، في الوقت الذي يحاولون فيه أن يؤرخوا لنظرية العلم بإيجاد أساس لها عند أفلاطون وأرسطو في الحضارة الإغريقية، أو عند بيكون وديكارت ومل وغيرهم من رواد النهضة الأوروبية الحديثة، بل إننا نجد من يثني كثيرًا على ما يسمى «بالعلم العبري» «والعلم المسيحي»، كما تساق التبريرات الواهية لاعتبار إسرائيل ضمن الحضارات الكبرى القديمة في الشرق، وللإشادة بالعصر الذهبي للعبقرية السامية في حضارة بابل وآشور.

 ولم يستطع أكثر المؤرخين المعاصرين إنصافًا للحضارة العربية الإسلامية أن يخفي نزعته العرقية عندما تحدث عما أسماه «بالمعجزة اليونانية» وتفوقها على الحضارات المجاورة لها، قائلاً: وحديثنا عن الماضي محدود من عدة وجوه، وأحد هذه الوجوه الضرورية أنه يجب علينا أن نقتصر على أسلافنا فحسب والواقع أن ثقافتنا النابعة من الأصل الإغريقي والعبري هي الثقافة التي تعنينا كثيرًا، إن لم تكن هي كل ما يعنينا والزعم بأنها بالضرورة أرقى الثقافات فيه خطأ وشر لأنني وإن كنت أرقى من جيراني فليس لي أن أقول ذلك، ولكن لهم فقط أن يقولوه، وإذا زعمت لنفسي شيئًا من العلو لا يستطيعون أو لا يقبلون أن يصادقوا عليه، فإن ذلك لا يثمر سوى العداوة بيننا.

وفي كتاب العلم في التاريخ لم يستطع المؤلف «جون ديزموند برنال» أن يخفي تحيزه الواضح إلى جانب الإغريق والفرس والرومان، في الوقت الذي يكيل فيه اتهامات متنوعة للإسلام دون أن يشرحها أو يدلل عليها.

 فالإسلام  فيما يزعم برنال أقام ثقافة متلاحمة ظلت باقية إلى يومنا هذا بالرغم من أنها ليست ثقافة تقدمية، واللغة العربية فيما يزعم برنال أيضًا حجبت الدور الكبير للعنصر الفارسي في العلوم الإسلامية الشرقية، والمسلمون يتحملون مسؤولية كبيرة عن إقامة حواجز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية إلى يومنا هذا، بدعوى أنهم لم يترجموا إنسانيات الإغريق مثلما ترجموا معارفهم العلمية والفلسفية، فانتقلت الإنسانيات والعلوم إلى الثقافة الحديثة عن طريقين مختلفين. وينكر «برنال» مآثر علماء المسلمين ويقصرها فقط على مجرد حفظهم لمواريث القدماء، قائلاً: «رضي معظم علماء المسلمين بالنمط الكلاسيكي الأخير للعلوم، ووثقوا في هذا النمط ولم يكن لديهم أي طموح لأن يطوروه تطويرًا ثوريًّا.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى بعض صور التحيز الواضح من جانب بعض المؤرخين عندما يتوجهون إلى التأليف في تاريخ العلوم وتقنياتها لإذكاء نزعة قومية، حيث نجد بينهم من يكتب عن علم غير غربي، لا ليؤكد حق حضارة أخرى أسقط دورها من حركة التاريخ الإنساني، ولكن لكي يثبت أسطورة الجنس الآري وتفوقه، ويؤكد مقولة أن العلم لا يمكن إلا أن يكون غريبًا. فعندما صنف «جوزيف نيدهام» وزملاؤه سبعة مجلدات ضخمة (بدأ إصدارها عام 1954م) عن العلم والحضارة في الصين، إنما كانوا يحاولون أن يفسروا السبب الذي حال دون أن تتبع التنمية في الصين نفس المسار الذي اتبعته الثورة العلمية الحديثة في أوروبا، ثم يسعون من خلال ذلك إلى تأكيد فرض ضمني مفاده أن العلم والتقنية اللذين أينعا بالفعل في أوروبا النهضة عالميان، وأن كل ما هو أوروبي لا بد أن يكون عالميًا.

 وغالبًا ما يطرح أمثال هؤلاء المؤرخين المتحيزين مسألة «العلم القومي»في صورة منافسة يحاول فيها كل فريق التصدي بحماس لا يخلو من المبالغة في كثير من الأحيان للرد على كل ما يقلل من شأنهم في ساحة الفكر العالمي.

وعلى غرار ما فعل «نيدهام» بالنسبة للعلم الصيني، أو شيء قريب منه، حاول «توبي هاف» مؤخرًا أن يجيب على سؤال: «لماذا ظهر العلم الحديث في أوروبا، على حين أن العالم العربي الإسلامي كان متقدمًا عن الغرب الأوروبي بكثير طوال الفترة التي مهدت لظهور هذا العلم؟»، وروَّج بالطبع لبعض المغالطات التاريخية في نقده للثقافة الإسلامية، لكنه لم يستطع أن يخفي جوانب التقدم التي يسميها «فجر العلم الحديث.

أما أولئك الذين حاولوا اختراق الثقافة الإسلامية من خلال دراستهم لتراثها العلمي، فقد تطرقوا لأمور من صميم العقيدة الإسلامية ذاتها وروَّجوا لأفكار خاطئة عن الإسلام والمسلمين. ومن أمثلتهم «أميلي سيفيج - سميث» الذي أورد في دراسة حديثة حول «الاتجاهات الجارية في دراسة العلوم والطب عند المسلمين في العصر الوسيط» كلاما مبتسرًا عن الطب النبوي والرسائل المؤلفة من قبل علماء الدين وليس من قبل الأطباء، على أساس اعتقادهم بأن المعرفة يمكن الحصول عليها فقط عن طريق الوحي والنبي محمد ﷺ وأعراف الصحابة المقربين وآرائهم. ويزعم «سميث» في دراسته أن رسائل الطب النبوي قد شاعت في مقابل الطب القائم على أساس إغريقي على أيدي فريق من الأطباء النطاسيين أمثال ابن جميع.

وفي مقال آخر بعنوان «العلم في خدمة الدين» يتخذ «ديفيد كنج» في خلال دراسته للتراث العربي الإسلامي مدخلاً لترويج أفكار خاطئة عن الإسلام، ويتخذ من هذا الستار العلمي رداء خادعًا، بحيث تبدو هذه الأفكار وكأنها تعبير صادق عن واقع الإسلام والمسلمين. ففي غمرة انشغاله بقضايا التراث الإسلامي المتعلقة بمسائل تحديد اتجاه القبلة واستطلاع أهلة الشهور القمرية، نجده يثير أسئلة لا تؤهله ثقافته للرد عليها، فهو مثلاً يتساءل عن سبب اعتماد المسلمين لخمس صلوات رئيسية فقط، زعمًا أن هذا التحديد لم يرد بشأنه نص صريح في آيات القرآن الكريم، أو في أحاديث الرسول ﷺ، ويظهر من خلال مناقشته لهذه القضية التي أقحمها على موضوع بحثه إقحامًا أنه يخلط بين الصلوات المفروضة وصلوات التطوع، ويسوق روايات من عنده تنسب إلى الرسول ﷺ قوله بأن صلاة الضحى بدعة موروثة، وأن هذا كان سببًا واضحًا فيما يزعم لحيرة المتأخرين وترددهم في ضم صلاة الضحى إلى الصلوات الخمس الرئيسية.

وفي كتاب تاريخ الطب يسير «جان – شارل سورنيا» على درب أسلافه ليوهم القارئ الغربي بأن المؤمنين في بلاد الإسلام اليوم يؤسسون علمهم الطبي على «الطب النبوي»، وأن كتاب القانون في الطب لابن سينا ركام غامض لا يتضمن أي فائدة عملية للمرضى، في الوقت الذي يقرر فيه مناقضًا نفسه أن هذا الكتاب ظل خلال ثمانية قرون من عمر الطب الغربي أحد المصادر الأساسية للحقيقة، ومادة تعليمية إجبارية في الجامعات الأوروبية.

إن مثل هذه المواقف المتحيزة بدرجات متفاوتة للعلم الغربي، بل لكل ما هو غربي، على حساب الإنجازات الحضارية للأمم الأخرى بصورة عامة، والأمة العربية الإسلامية بوجه خاص، ومثل هذه الدعاوى والافتراءات الموجهة ضد الإسلام، والمشككة في قدرات العقلية العربية الإسلامية وأصالة الفكر العلمي الإسلامي، والمشوهة لحقائق التاريخ والعلم على حد سواء، هو الذي يدعونا دائمًا إلى البحث في كنوز التراث لتأصيل الثقافة العربية الإسلامية وإعادة صياغتها بما يلائم إيقاعات العصر، وتوقعات المستقبل، وذلك في إطار الإلمام الواعي بكل الخصائص والقسمات الحضارية التي تخصنا وتميزنا عن الآخرين.

من ناحية أخرى، يجب أن نثني في جميع الأحوال على ما يبديه الباحثون الغربيون من اهتمام متزايد بالتراث العلمي عند العرب والمسلمين، وعلى تفوقهم بالنسبة لما لديهم من معاهدة وأقسام علمية ودوريات متخصصة في هذا المجال، مقارنة بما هو موجود في العالم العربي الإسلامي، الأمر الذي يفرض علينا مضاعفة الجهود للحاق بركبهم ومشاركتهم في كتابة ما يخصنا من تاريخ العلم والحضارة.

ومهما يكن من أمر، فإن التأصيل لنظرية العلم عمومًا يكون مقبولاً في إطار المعالجة الموضوعية لطبيعة المعرفة العلمية في كل مرحلة تاريخية من مراحل تطورها، ولم يعد مقبولاً في عصرنا أكثر من أي وقت مضى أن يصر بعض الذين يؤرخون للعلم من منطلقات مذهبية أو تعصبية على طمس حقائق التاريخ العلمي لاحتكار شرف الإنسانية في نشأة العلم ومناهجه لجنس بعينه دون بقية الأجناس

بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف