في الوقت الذي يطرح مشروع الحوار الوطني لإتقان فن ادارة الصراع على السلطة والحيلولة دون انفلات الأوضاع الامنية والسياسية، يأتي مشروع مناقشة قانون المحكمة الاتحادية لتفجير الازمة السياسية او على الاقل تصعيدها. بعبارة اخرى اذا كان (الحوار الوطني) ليس اكثر من اعادة اقتسام السلطة وتدوير عملية إنتاج الفساد التي تعني بالمحصلة النهائية ادارة الازمة السياسية التي تعصف بالمجتمع، وبمعنى آخر هي مساعي للحيلولة دون انفجار الصراعات السياسية الى ما لا يحمد عقباه بين القوى المتصارعة في العملية السياسية، فان مشروع قانون المحكمة الاتحادية ينسف الحوار الوطني من أساسه .
ان قانون المحكمة الاتحادية الذي طرح منذ حزيران عام ٢٠١٩، وأركنَ على رفوف البرلمان بسبب تصاعد حدة الصراع وتعالي الأصوات التحررية خارج العملية السياسية ضد مشروع القانون، نقول يبغي تحويل المحكمة الاتحادية الى مجلس ديني لتشريع الفتاوى الدينية وتفسير الدستور من زاوية مصالح الأحزاب الإسلامية وميليشياتها. فتعيين رجال دين بالعمائم البيض والسود في المحكمة الاتحادية وحسب نظام المحاصصة، هو خطوة خطيرة نحو اضفاء الهوية الدينية على طابع الدولة العراقية. أي أن قانون المحكمة الاتحادية يعني تفسير بنود الدستور وفق منظور إسلامي ويكون الفيصل فيه رجال الدين، وتجريده حتى من بعض البنود والمواد التقدمية التي تشير بشكل عابر او من بعيد الى الحريات والحقوق المدنية. وان نفس الدستور الذي كتب في عام ٢٠٠٥ مليء بالتناقضات وتحمل بنوده تفسيرات عديدة، تفسرها الأحزاب حسب مصالحها. ولتفصيل اكثر بالشرح كي يفهم القارئ، فالمحكمة الاتحادية وظيفتها الدفاع عن الدستور وتفسير مواده، مثلما على سبيل المثال وليس الحصر حسمت الجدل وبغض النظر صحة تفسيرها من عدمه حول انتخابات ٢٠١٠ وتفسيرها لمعنى الكتلة الاكبر في الدستور، عندما حصدت قائمة علاوي (العراقية) علاوي ٩١ مقعد وقائمة دولة المالكي (دولة القانون) ٨٩ مقعد . وهكذا لو فرضنا جدلا ان مشروع قانون يطرح من قبل الاسلاميين مثل القانون الجعفري السيئ الصيت الذي يجوز اغتصاب الأطفال ويرفضه البرلمان، فمن حق تلك القوى رفعها الى المحكمة الاتحادية، وسيصوت المعممون من رجال الدين الذين سيمثلون الأكثرية في المحكمة الاتحادية وهي مقسمة طبعا حسب نظام المحاصصة على قانونية المشروع بحجة أنه لا يتناقض مع الشريعة الاسلامية الذي هو المصدر الرئيسي او الأساسي للتشريع حسب المادة الثانية من الدستور. وهكذا ستشرع عشرات القوانين الاسلامية بحيث تضفي الهوية الاسلامية، وتحديدا هوية الاسلام السياسي الشيعي على الدولة العراقية. بمعنى آخر اذا كان داعش لم يكتسب صفة شرعية ورسمية لقوانينه بتنظيم المجتمع على صعيد الحريات والحقوق المدنية ومساواة المرأة وبقية الطوائف والاديان، فان الاسلام السياسي الشيعي سيكتسب صفة قانونية بترسيخ سياساتها التي ليست اقل اجراما بحق المجتمع بجميع اقسامه من سياسات داعش .
وفي خضم الهتافات والأهازيج بعيد اطلاق مبادرة الحوار الوطني من قبل الكاظمي، واستقبلتها القوى القومية الكردية والعروبية وجناحي العبادي والصدر بشكل ايجابي، شكك فيها تحالف مليشيات فتح، ودولة القانون التي يقودها المالكي. فكيف للحوار الوطني ان يكتب له النجاح وهناك معارك طاحنة خلف الكواليس من اجل اقرار مشروع قانون المحكمة الاتحادية، وهو من العوامل التي تحدد المفاوضات من موقع قوة ويحدد شروط لعبة الحوار الوطني. هذا اضافة ان تحالف الميليشيات الشيعي يدرك ان الحوار الوطني يعني بالنهاية تقويض حصته من السلطة والامتيازات والنفوذ لصالح الاخوة الاعداء في العملية السياسية.
ما يطرحه الكاظمي من حوار وطني ليس شيئا جديدا، فقط طرحه برهم صالح في ٢٠٠٦ عشية الحرب الاهلية الطائفية، ثم المالكي واسس مستشارية مرتبطة بمكتب رئيس الوزراء بعنوان المصالحة الوطنية كي تكون واجهة جديدة لعمليات السرقة والفساد ثم جدد العبادي العهد له بعد احتلال داعش لثلث مساحة العراق، اما عادل عبد المهدي فالحق يقال، فلم يطرح اي مشروع للحوار الوطني لأنه انشغل بقمع انتفاضة اكتوبر، ولم يكن امامه قوة سياسية معارضة له في العملية السياسية من اجل اجراء حوار وطني معه. إلا أن الجديد في هذا المشروع هو محاولة الكاظمي باختطاف الاضواء الاعلامية التي سلطت على زيارة البابا بمعيته وهو يتبختر على انغام موسيقى فلكورية، فذهب لطرح مبادرته التي سماها (الحوار الوطني) من أجل تأهيل نفسه الى ما بعد الانتخابات، وجزء من مساعيه لأن يكون رقما في العملية السياسية، وبغض النظر عن التجديد لمركزه من عدمه، أي خطوة عملية لتغيير موقعه من الانتقال من موقع كيس للملاكمة بين القوى القومية والطائفية المتصارعة على سرقة ونهب وجماهير العراق الى حكم في حلبة الملاكمة من خلال مشروعه الفاشل الجديد وهو الحوار الوطني.
واخيرا من يعتقد ولو للحظة واحدة، ان هؤلاء اللصوص والقتلة والفاسدين في العملية السياسية من الممكن ان ينقلوا المجتمع العراقي الى بر الامن والامان عبر حوارهم الوطني، فقد قرر تلقي الضربات للتخفيف من اثرها على الكاظمي بشكل طوعي. فنظرة سريعة لقانون المحكمة الاتحادية الذي مرر بعض بنوده بغفلة من زيارة البابا، وتقسيم مقاعدها على القوى القومية والطائفية حسب مبدأ المحاصصة، فيدرك ان العراق كم هو بعيد عن الاستقرار الامني والسياسي. وليس هذا فحسب بل ان هوية (الدولة العراقية) التي تعد صياغتها خلف الكواليس وبطريقة جهنمية عبر تعيين عدد من اهل العمائم وبغض النظر عن لونها تكشف ان الحوار الوطني إذا تم، هو حوار اللصوص والحرامية والقتلة والفاسدين.
لقد حاولوا من قبل ترسيخ الهويات الطائفية والقومية في المجتمع، ونقل صراعهم السياسي للوعي الاجتماعي في المجتمع، بيد أن تجذر مدنية المجتمع العراقي التي عبرت عنها انتفاضة اكتوبر فضحت اكاذيبهم وبددت الأوهام التي نثروها. ان هذه القوى لا تمثل الا مصالحها سواء عبر المحكمة الاتحادية او عبر الحوار الوطني، وتريد اعادة ترتيب عمليات الفساد الإداري والسياسي والمالي في الانتخابات المقبلة، وترسيخ سلطتها سواء بهوية شيعية او سنية او عروبية او هوية تشبه (الجودلية) كي تضفي الشرعية على تمثيلهم المزيف لما سميت بالمكونات.
إن الحوار الوحيد والشرعي هو بأن جماهير العراق تكون في صف واحد من العمال والموظفين والطلبة والنساء والشباب ، وتضع نصب عينيها نسف العملية السياسية وخلع انياب هذه السلطة الفاسدة والمجرمة التي غرستها منذ الاحتلال في جسد المجتمع، وتأسيس دولة علمانية وغير قومية تعرف البشر في العراق على اساس هوية المواطنة، هوية الانسان .
سمير عادل