لتدين ينبع من عمق هذه الفطرة المجبول عليها الإنسان.. والتدين هو الانجذاب نحو قوة عليا والخضوع لها..فالفطرة التي فطر الله عليها الإنسان تتمثل في الاعتقاد الداخلي لديه بوجود قوة عليا تقف وراء هذا العالم المادي وموجودات التي لا تعد ولا تحصى.
وقد أكد القران الكريم في أكثر من موضع حقيقة أن التدين من الأمور التي فطر عليها الإنسان لا التي اكتسبها من حياته.. فقال سبحانه تعالى ” فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الروم:30) فحدد في هذه الآية حقيقيين هامين الأولي: أن التدين فطره فطر الناس عليها لا تبديل ولا تغير لها.
لا بفعل عوامل داخلية أو خارجية، لأنها فطرة الله. ولا احد يستطيع تغير هذه الفطرة. والحقيقة الثانية: أن المظهر الصحيح لهذا التدين، والشكل المطلوب لممارسته -كونه فطرة من الله- أن تتوجه الفطرة لمن فطرها، وأن تتعبد بالطريق والمنهج الذي ارتضاه “. لقوله تعالى “إن الدين عند الله الإسلام “ولقوله تعالى “ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه” وهذا الدين هو الدين الحنيف.الإسلام (المتمثل برسالة التوحيد من لدن ادم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذي أوجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله عن رب العزة: (كل عبادي خلقت حنفاء، فإجالتهم الشياطين عن دينهم، وأمروهم أن يشركوا إلي غيري).
وقد أكد المولى فطرية التدين بقوله تعالى: “وإذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم، الست بربكم، قالوا بلا شهدنا ” قال العلماء فهذا هو الذي فطر عليه الإنسان في عهده مع كل نسمه قبل خلقها..وذلك ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” وهي التي تنطق عندما يصيب الإنسان الضر قال تعالى: “وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم مبينين إليه، ثم إذا أذاقهم منه رحمة، إذا فريق منهم بربهم يشركون” (الروم:32) فيظهر هنا نداء الفطرة بوضوح عندما يتعرض الإنسان للضر ولا يجد من يغيثه، فيصرخ من أعماق فطرته على هذه القوة الغيبية (الله)، لكي تنقذه وتنجيه مما هو فيه من ضر وبلاء ..وهذا هو الأمر المشاهد في جميع أحوال الناس عند التعرض للخطر فالخوف يساعد على بيان الفطرة ولا يوجدها، أي أن التدين ليس وليد الشدة والخوف، إلا أن ظهوره يكون اشد عندما يواجه الإنسان خوفا أو مصيبة أو ضر باعتبار أن الخوف والضر والشدة، تقرع الفطرة بقوة فتفجر مكنوناتها وتوقظ ما ران عليها من حياة اللهو واللعب والتمتع، وبالتالي تدفع بالإنسان إلى العودة والانابة إلى ما طمر من فطرة سليمة لدى الإنسان، لتمتثل لقوله تعالى “منيبين إليه..” وقد عضد ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم “ما من نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ” (مسند الإمام احمد) وقوله “كل إنسان تلده أمه على الفطرة” (صحيح مسلم).)
وكذلك ما ورد عن الإمام علي بن أبي طالب كرم اله وجهه.. في الخطبة الأولى من كتاب نهج البلاغة، حيث قال: “بعث الله فيهم “الناس” رسله وواتر إليهم أنبياء ليس تلدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسى نعمته.
وهذا يثبت بان التوجه للتدين، والدين الحنيف، والإقرار بالخالق، هو فطرة من الله سبحانه وتعالى، فطر كل الناس عليها لا بتبديل ولا تغير ولا تحويل ولا تحوير فيها.. وبالتالي لابد أن يتوصل الإنسان بفطرته وعقله، إلى التدين -حتى ولو لم يعرف الدين الحنيف- ولكن يحول الشيطان بينه وبين هذه الفطرة فيحثو التراب عليها ليطمسها ويغيبها، ويحرف العقل بالهوى فيصرفه ويبعده عنها.
ولكن رحمة الله تتدخل بإرسال الرسل والأنبياء، بالدين الحنيف لبيان الفطرة، ورفع ما ران عليها بفعل الشيطان، وما زاغ عنها بفعل الهوى، ثم ردها ردا جميلا إلى حالها التي فطرت عليه من قبل خالقها.. وعقلها الذي سكب للتعرف عليها في كل أن. لأن الفطرة بطبيعتها تميل للتدين، والدين يأتي لتصريف وتنظيم هذا التدين وفق سنن وقوانين من خالقها.
وقد أكد هذا القول المعنى اللغوي للفطرة، حيث قال ابن الأثير في معنى مادة (فطر) “أنه يولد على الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر في لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل، لأنه من أفات البشر والتقليد”. وقيل كذلك في معناه ” كل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدا، إلا وهو يقر بان له صانعا، وان سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره".
وهناك فرق بين غريزة الحيوان، وفطرة الإنسان.. رغم كون غريزة الحيوان، وفطرة الإنسان تشتركان في النشأة، إلا أن الغريزة هي محرك للسلوك الحيواني جبرا، أما الفطرة فهي محرك للسلوك البشري جبرا في الجوهر، إراديا شكلا وسلوكا، فغريزة الجنس موجودة فطريا في الإنسان، يمكن أن يصرفها الإنسان كيفما يشاء وقت ما يشاء، فالأمور الفطرية التي جبل عليها الإنسان تعمل وتصدر أثارها عنه بوعي واختيار. وهي خاضعة للزيادة والنقصان. وهذه الأمور لو هبطت لدرجة الصفر فإنها تسلب الإنسان إنسانيته وتهبط به لعالم البهيم فيصبح كالأنعام بل هم أضل.
التدين وهدفي الحياة:
إن قابلية التدين لدى الإنسان تأتي من طبيعة نشأته وتكوينه، أي من فطرته التي فطر وجبل عليها.. فكون الإنسان مخلوق، وكونه خلق في أحسن تقويم، وكونه يمتلك خصائص منفردة عن باقي المخلوقات، وكونه يعيش في كون يملأ أرجائه الدقة والنظام.. فليس من المنطق والعقل أن يكون بلا وظيفة ولا هدف في الحياة، بل لا بد من تساوق هذه الوظيفة وهذا الهدف -بوعي أو بدون وعي منه- مع وظيفة الوجود وهدفه في حركته المصدرية.. وفي حركة نحو المآب.
إن الكون وما فيه مخلوق مسير لما خلق له، عدا الإنسان فإنه مسير ومخير لما خلق له. قال تعالى (وهديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا) أي أن كل شيء في الوجود به فطرة التدين وجوبا، بما في ذلك الإنسان، إلا أنه لم يترك لوحده ليعبر عن هذا التدين الذي فطر عليه، فجاء الدين الحنيف ليشكل له نبراسا وهاديا لكيفية ممارسة التدين في حياته بالشكل الصحيح الذي يحقق له الخيرية في الدنيا والآخرة.
فالدين في الحقيقة لم يأت لإنشاء التدين لدى الإنسان، لكونه موجود بفطرته، وإنما جاء لرفع ما ران على قلوب الناس من معيقات للتوجه الصحيح للتعبير عن التدين، وبالتالي وضع له قواعد التفكير والسلوك للوصول إلى التدين الصحيح.
إن فطرة التدين والتوجه إلي الدين من أرسخ الأمور وأولاها في الحياة الإنسانية، من لدن أدم عليه السلام حتى اليوم، باعتباره أن التدين جزءا لا يتجزأ من طبيعة وكينونة الإنسان بما فطر وجبل عليه من رب العالمين حيث فطر الإنسان بالتدين وجبل عليه، ليقوده إلي التعرف علي وجودها وخالقها، والتوجه إليه كجزء من المهام الملقاة علي عاتقه، وذلك من خلال تحقيق مراد الله في الخلق، المتمثل بقوله تعالي: “وما خلقت الأنس والجن إلا ليعبدون” ومن خلال هذا الهدف العام يتحقق الهدف الإجرائي من وجود الإنسان، المتمثل في قوله تعالي “هو الذي جعلكم خلائف في الأرض” (فاطر39) وقولة تعالى: “وهو الذي خلقكم من الأرض واستعمركم فيها”فالإنسان بعبارة أخرى لديه أمور فطرية منها التدين ولديه القابلية لإيقاظ هذه الفطرة أو الغريزة التي غرزت في ذاته بدون إرادة أو قصد منه، وإنما لتشكل استعدادا لقابلية التدين الذي يحتم عليه أمورا في الحياة، تتمثل في تحقيق دوره ووظيفته في الحياة بتعاليم الدين الحنيف.
ولكي تتساوق مع غايته وهدفه في هذه الحياة “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”.. وإذا علمنا يقينا استحالة القيام بالوظيفة والدور الإنساني على الأرض، بتحقيق الغاية والهدف من الخلق (العبادة) دون وجود الدين الموجه لهذا الدور وهذه الغاية، فإن ذلك يحتم قطعا وجود فطرة التدين والقابلية في هذه الفطرة والاستعداد لليقظة عبر هذه الفطرة استجابة لخطاب خالق هذه الفطرة واستعداداتها.
وهذا كله ينشئ صلة دائمة ومستمرة بمصدر العطاء الدائم والمستمر (الخالق)، الذي يبث فيه مقاومة اليأس ومجادلة القنوط، ومعالجة الهلع الذي يستبد بوجود الإنسان النفسي، من خشية انقطاع الأجل، وزوال الرزق.
“أنه إحساس عميق بالصلة بان هذا الوجود النفسي للإنسان، في أعمق طواياه، وأدق حناياه موصول بوجود معنوي وروحي كبير شامل مستوجب للحياة، وما وراء الحياة، ما قبل الحياة وما بعد الحياة وفطرة الإنسان مطمئنة إلى صلتها بكون معطاء، صلتها بروح فياضة أكبر وأشمل، صلتها بخالق الكون والروح والحياة الذي كان خلقه إياها فيض وكرم منه ورزقه إياها دائم انبثاق من خزائن لا تنفذ.
التدين وتاريخ البشرية:
إن حياة الشعوب في جميع أطوار ومراحل الوجود البشري على الأرض تدل على عمق التدين، والانجذاب نحو الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) وذا أمر مشاهد في كل العصور، وان اختلفت أشكال الإشباع لهذه الفطرة من امة لأمة، في حال ترك بناء التصور للعقل وحده دون الاعتماد على العقل والنقل (الرسل والرسالات).
فالبحث عن قوة غيبيه، خارقة للعادة، وقادرة على الخلق -على سبيل المثال- كان العامل المشترك في التصور للإله الذي يبحث عنه الإنسان، ولكن شط العقل وانحراف في كيفية التعبير عن هذه القوة الغيبية، التي لم تفلح وسائل العقل وقدراته مهما كانت في بناء تصور سليم له بمفردها. فكان لهذا لا بد من الرسل والرسالات باعتبارها بوصلة الحق في هذا الأمر الغيبي.
لذا من المستحيل أن تمر حضارة بشرية دون أن يترك الدين والتدين جذورا عميقة وسحيقة في أعماقها، مهما بلغت من القدم والتقادم أي أن ظاهرة التدين هي ظاهرة عالمية تمتد بامتداد الوجود البشري، وهذا يشكل في حد ذاته دليلا قويا على أن التدين هو من أصول الفطرة البشرية، لا طارئ عليها، أو حادث لها بفعل التعليم والتلقين، وان احتاجت في بيانها إلى التعليم والتلقين، فالعلم والتعليم يقويها ويهذبها وينشطها، ويرسم لها السبيل الصحيح والمسار القويم لترجمتها في الواقع.. وهذا ما يمثله كلاً من العقل والنقل حيالها.
إن ظاهرة التدين قديمة قدم الأزل لأنها لازمت وجود الإنسان منذ أن خلق، لكونها من مقتضى الفطرة الإنسانية التي خلق الإنسان وجبل عليها، حتى غدت وكأنها توأم وجود الإنسان. وهكذا يتبين بأن طبيعة الإنسان تدفعه إلى التدين والاعتقاد بوجود خالق، وتدفعه إلى التدين له وعبادته، ووجود العقل لدى الإنسان وتفرده به عن سائر المخلوقات الأخرى يعزز مكنون الفطرة. وقد أنهت مسيرة الأنبياء والرسل كل اعتقاد خاطئ حول نشأة التدين والعلاقة بينه وبين الأمن والخوف. وأثبتت هذه المسيرة بأن التدين موجود ومفطور في الإنسان قبل أثاره، ولا يمكن القياس بشكل معكوس. وإنما العلاقة الصحيحة أن الخوف والأمن اثر من أثار التدين سلبا أو إيجابا. أي أن التدين وليد الفطرة والعقل معا، في الكيان البشري، لان العقل هو الذي يبرزه، وهو الذي يطمسه.
حاجة التدين للدين:
التدين كفطرة لا بد لها من إشباع، وإشباعها بشكل صحيح لا يتم إلا بالدين الحنيف، والدين الحنيف هو الإسلام الذي أرسل به الرسل والأنبياء جميعاُ من لدن أدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لوحدتهما في المصدرية ففطرة التدين والدين الحنيف كلاهما من الله.
وعدم إشباع فطرة التدين بهذا الدين الحنيف، سوف يقود حتماً إلى انحراف في شكل التدين عن جادة الصواب الأمر الذي ينتج ويلات ويجر مآسي ومصائب على صاحبه، عبر ذلك الإشباع الخاطئ، الذي ما يزيد النفس إلا حزن وألم وعذاب وتعاسة وشقاء. “ويعبدون من دون الله مالا يضرهم وينفعهم” (يونس) وقد عبر بعض المنحرفين بالتدين عن ذلك بالقول كما ورد في القرآن الكريم “ما نعبدهم إلا ليقربون إلى الله زلفى” (الزمر).
ولهذا يحتاج الإنسان إلى الدين (بالوحي) ليدله على الكيفية الصحيحة لإشباع فطرة التدين، كما هو الحال في الوحي الإلهي للنحل في تصريف أمور حياتها “وأوحى ربك أن النحل أن أتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون” (النحل) وقوله عن كل المخلوقات على لسان موسى لفرعون “قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى” (طه)وهكذا فالدين الحنيف الذي أنزل من قبل الله سبحانه وتعالى هو المرشد والمنير درب التدين الذي فطر وجبل عليه الإنسان، لذا فان الذي يرغب في أن لا يضل الطريق في تحقيق ما فطر عليه، عليه أن يؤمن بما أمن به خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
التدين ودوافع السلوك:
إن كل سلوك له دافع، إما دافعاً داخليا أو خارجيا، فالدافع الداخلي قد يكون فطريا أو قد يكون وراثياً والدافع الفطري هو ما يمثل الطبيعة الإنسانية بما جبلت وفطرت عليه من قبل خالقها دون تأثير من العوامل الخارجية كعاطفة الأمومة أو التدين، أو التملك، أو الاستكشاف، أو العجلة، أو حب الذات..الخ. وأما الدافع الوراثي فهو داخلي ولكنه يمثل مجموع ما توارثه الفرد من خصائص وصفات جسمية وعقلية ونفسية عن أصوله (الآباء والأجداد) وهذا النوع من الدوافع (الفطرية والوراثية) يندفع بها الإنسان في كل أن ومكان من داخله، لا بدافع الظروف الطارئة والحادثة الواقعة عليه من خارجه (أي من المواقف والأحداث) بل بإلحاح ودفع من ذات طبيعته وجبلته، لكون هذه الطبيعة تقتضي الملازمة والمصاحبة له ارتباطاً، ولا تفرض عليه من الخارج. “فطرة الله التي فطر الناس عليها” حيث هو الذي “خلق كل شيء ثم هدى” وهو “الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى ” (القمر:49) وهو القائل “إنا خلقنا كل شئ بقدر".
أما النوع الثاني من الدوافع فيكون منشأة خارجي (أي بفعل المؤثرات والتأثيرات الخارجية) وهو قسمان: الأول: يمثل الشخصية وخصائصها وصفاتها وسماتها التي تكدست فيها عبر تراكم الخبرات الحياتية وشكلت منها وبها ملامح الذات لكل فرد في المجتمع (وان كان منها ما يتشابه مع الآخرين ومنها ما يختص به فقط ) وهذه تشكل دوافع هي في الأصل كانت (موضوعيه) خارجة عن ذاته، ولكن مع مرور الوقت أصبحت جزء من الذات والشخصية، مما جعلها مع الوقت دافعا داخلية، وان كانت أصلاً دافعاً مكتسبا، تكون من واقع الحياة
والقسم الثاني: هو المتمثل بدافع ضغط الواقع، أي يأخذ به الإنسان بدافع ضغط الظروف والأحوال الخارجية الواقعة عليه، (الخارجة عن نطاق جبلته، وعن ما توارثه من أصوله، وعن ما التصق بشخصيته فأصبح جزءاً من صفاته وسماته الذاتية) وهذه الدوافع لو تغيرت فان استجابة الإنسان وسلوكه وممارسته تتغير لأنها مفروضة عليه من خارجه، وليس من ذاته.
وهذا التوضيح يبين بأن التدين هو من النوع الفطري لدى الإنسان الذي لا حول له ولا قوة في وجودة وبهذا الفهم يقترب الأمر الفطري لدى الإنسان بالأمر الغريزي لدى الحيوان.
وبهذا يمكن أن نفهم بأن الفطري هو رديف الغريزي، حيث جبل عليه الإنسان في باطنه وطبيعته التي خلق عليها ولا يوجد إنسان يخلو منها بتاتا.
كما تظهر أن دوافع الأمور الفطرية توجد في داخل كيان الإنسان نفسه، فتظهر بفعل ما في طبيعته وبنيته، لا بفعل عامل خارجي، وهي لا تحتاج لتعليم أو إرشاد خارجي، وان كان ذلك يهذبها ويقويها وينميها..لان كل أمر خاضع للجانب الفطري في الإنسان، لا يخضع لتأثير العوامل الخارجية المحيطة بالإنسان، لأنها تعمل وتتحقق بمعزل عنها.
بالتالي مهما عمل الإنسان من اجل التخلص من هذه الأمور الفطرية أو القضاء عليها لا يستطيع، لأنها من ذات طبيعته (بديل فشل التجربة الروسية في القضاء على فطرة التملك لدى الناس) وان كان القمع والكبت قد يواري أو يضعف ظهورها، أو يحور بروزها عبر الحيل الدفاعية لكي يتلاشى صدامها مع الواقع الضاغط عليها.
وهذا المثال السابق ينطبق على كل أمر فطري، وبالتالي هذا ينطبق على فطرة “التدين” وخاصة في بحث هذه الفطرة عن إله وخالق للموجودات والكائنات.
التدين وتسلسل الحاجات:
إن التدين باعتباره أمر فطري في الإنسان، يدخل وجوباً في نطاق الحاجات الضرورية له، وبما أن الحاجات الضرورية لابد من إشباعها وجوبا لا نفلا فان التدين لا بد من إشباعه كباقي الحاجات الضرورية في حياته.
مما يجعلنا نؤكد على ضرورة إعادة بناء تسلسل جديد لإشباع الحاجات البشرية -التي عمد علماء الغرب على تجاهلها ضمن منظومة الحاجات التي تعارف عليها الدين الحنيف، والتي منها حاجة الفطرة البشرية للتدين.
ومن المعلوم أن للإنسان حاجات بيولوجيه لا يمكن أن تستمر الحياة بدونها، وهي التي تقف على رأس سلم أولويات هذه الحاجات.. التي لم يختلف عليها اثنان في التاريخ البشري، (كالهواء، والماء، والطعام).
ثم تأتي الحاجات البيولوجية من المرتبة الثانية والتي هي حاجة ملحة، ولكن قد تستمر الحياة لو تأخر إشباعها أو لم تشبع، وإن كان عدم إشباعها يمثل عبئا ثقيلا في حياة الإنسان (كالملبس والمسكن والجنس) وإما الحاجات الأخرى فهي الحاجات التي يشكل عدم إشباعها خللاً نفسيا-اجتماعياً لدى الإنسان، وهي الحاجات النفسية-الاجتماعية (الحاجة إلى الحب، الحاجة إلى الأمن، الحاجة إلى تقدير الذات، الحاجة إلى تحقيق الذات) ولكن الأمر الذي غفل عنه في هذه المنظومة ما فطرت وجبلت عليه النفس البشرية وكان جزءا من ذاتها وطبيعتها (الحاجة للتدين) والتي لو لم يتم تحقيقها وإشباعها فانه تؤدي لانحرافات عقلية (فكرية) أو انفعالية (نفسية) أو سلوكية (حركية)أو قد تقود الإنسان لإشباعها عبر حيل دفاعية عقلية ونفسية وسلوكيه للهروب من ضغطها.
إن من المعلوم أن للإنسان حاجات يبحث عن إشباعها، لذلك تتحرك دوافعه في كل اتجاه لتحقيق هذا الإشباع على الصعيد المادي، أو النفسي،أو الروحي، أو العقلي.
ولو لم يحقق الإنسان هذا الإشباع على هذه الصعد الثلاث يظل في حالة من الخوف والقلق وعدم الأمن والأمان والطمأنينة والسكينة وبالتالي فان الدين يوفر الإجابات الشافية لهذه الحاجات التي تلح على الإنسان منذ ولادته حتى مماته.
فعندما يسال الإنسان نفسه عن سر وجوده في الكون، وكيف أتي إليه ولماذا، وأين المآل والمصير، فانه لا يجد الجواب الشافي إلا من خلال فطرة التدين، وطبيعة العقل
وما لم يجب الإنسان عن هذه الأسئلة المتعلقة بوجوده ووجود الكون والحياة من حوله،فانه سيظل بدون إشباع حقيقي لحاجه ملحه في ذاته وكينونته (حتى لو أجاب عليها بشكل خاطئ من خلال دين خاطئ) فإنها قد تشفي غليله نوعا ما وتوفر له نوعا من الإشباع الذاتي وعندما تهذب عملية التدين بعقيدة صحيحة وناصعة كالعقيدة الإسلامية فان الإشباع يكون كافٍ.
أي إن التدين يقدم الإشباع المطلوب للحاجات الملحة الروحية والعقلية لدى الإنسان. فالإنسان وهو يسعى لراحة ضميره ووجدانه، يعمل على معرفة حقائق هذا الوجود وخالقه، وهدفيه الخلق، والحياة فيه. لذلك فان التدين يساعد الإنسان على فهم كنه الوجود،والحياة، ويدرك أهدافها وبالتالي ينشئ التصور الصحيح لهذا الوجود والحياة وكذلك التصور الصحيح للخالق.
فالتدين إذا يقود إلى الحقيقة، والحقيقة تقود إلى حل التناقص الداخلي، وإعادة حالة التوازن للنفس، وبالتالي يطرد القلق والخوف من ذاته، وتستقر بلا منها في حياته الطمأنينة والأمن والسكينة.
التدين ووحدة الوجود:
التدين على مستوى النفس البشرية يثير في النفس راحة تملأ كيانه، وسكينة تملأ فؤاده، ورضا يملأ كينونته، وسعادة تملأ عليه حياته، وتولد لديه عملا وهمة ونشاط وقوة في بذل الجهد المستطاع، ثم توكيل الأمر كله إلى الخالق تبارك وعلا فإذا جاءت النتائج بما يحب ويشتهي حمد الله، وإذا لم تأت بذلك حمد الله أيضا، ثم استنهض الهمة وشحذ العزم لمعاودة الفعل مرة ومرة حتى يكتب له النجاح، ويشبع ما له من حاجة، وبذلك يزول عنه كل عناء، ويذهب ما به من كدر، وهو يحتفي بما أنجزه وحققه بعون الله تعالى.
ومن نواتج فطرة التدين في حياة الإنسان، أنه من خلالها يوقن بأنه يعيش في وجود ليس معزولا ولا مقطوعا فيه عن باقي الموجودات والكائنات، فيه يعيش في كون متناغم يشعر فيه بالأنس لأن علاقته فيه هي علاقة الاستكشاف والتعرف” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” وإن من شيء إلا يسبح بحمده” ومن خلال إيقانه وعلمه بأن العلاقة مع الوجود هي علاقة تعارف وليست علاقة تضاد وصراع.
ومن خلال هذا التساوق والتناغم بين الإنسان وبين حقائق الوجود المبثوث من حوله يبرز في هذا عطاء للذات رعاية وقيمة وقدر لها، أو إعلاء لكرامة الذات فهي في الحياة ليست هباء منثورا أو كونا مقطوعا، لأنها ترتبط وتمتد في وحدة موحدة في غيرها من الموجودات، فالكون يحفل بالذات ويرعاها، مما يولد لدى الذات دفء وحرارة الوجود لها من حولها.
إن أبرز آثار التدين الصحيح عبر الدين الحنيف، هو السكينة والطمأنينة والأمن، وهذا كله يحصل عليه الإنسان من خلال الصلة التي يكونها التدين بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان والوجود وما يسخر به من كائنات من حوله.
ولكن إذا لم يشعر الإنسان بهذا الإحساس والشعور بالأمن والتناسق مع الكون، وبالصلة والتواصل مع الخالق، فان الفزع والخوف والقلق والتوتر والاضطراب يسيطر على الإنسان بكافة الجوانب لان الصحة النفسية للذات تكمن أولا في الطمأنينة والأمن النفسي ومن آثاره أن الشخص يقوم من خلاله باكتشاف ذاته لذاته وهو كاشف لنقص الذات متأصل في كينونتها، وهذا ينشئ لدى الإنسان التفكير بإعادة التوازن من جديد لهذا النقص.
التدين ينمى الشخصية:
لقد ثبت إن التدين أمر فطري في ذات الإنسان، جبل عليه منذ وجوده وذلك من طريق العقل والنقل معا.
لهذا فان نداء الذات الإنسانية الداخلي يهتف بالإنسان إلى التعرف على منبع التدين وهو الخالق، لأنه الحق الوحيد والذي منه يستمد بقاءه وفنائه، وبه يعيش ويفنى، وبالتالي فإن الالتجاء إليه أمر مريح للنفس البشرية والتوجه صوبه هو تمام الأمن والطمأنينة والسكينة الداخلية للإنسان، لان الإنسان (خاصة في حالة الخوف) يبحث عن الملجأ أو الملاذ وهذا لا يتأتى إلا عبر تدين صادق ودين صحيح لان التوجه للتدين وللخالق هو تلبيه داخليه لنداء الفطرة، وهذا النداء متساوق مع هذا الهتاف الداخلي ، وهو يشكل ترنيمه مشتركة ومتحدة متجهة صوب هدف واحد في بوتقة واحده.
إن الشخصية الإنسانية لا يمكن أن تحقق ذاتها إلا باكتمال كينونتها، وهذه لا تكتمل إلا عبر تحقيق الحاجات الفطرية الروحية منها والنفسية والجسدية على حدٍ سواء باعتبار أن الشخصية هي عبارة عن مجموع الخصائص والصفات الجسدية والنفسية والعقلية والانفعالية والاجتماعية المشكلة لحياة الإنسان.
وبالتالي لا يستقيم للشخصية حال إلا إذا أفلجت في تحقيق التوازن في كل هذه الأمور جميعا ليحوز على الأمن والأمان الداخلي في حياته.
التدين يحفز قوى الحياة لدى الإنسان:
إن التدين يوصل الإنسان بفطرته التي من أبرزها التسليم بوجود الخالق، الأمر الذي يقيه الضياع والتيه في الأفكار التي تقوده إلى عدم الاستقرار الفكري والعقلي فالتدين يجعل الإنسان موصول بقوة غيبية أقوى من كل القوى المعلومة في الكون، فالراحة لا تكون فقط بالإقرار بواجب الوجود (الخالق) وإنما في الصلة به، وعدم الانقطاع عنه، مما يجعله غير منبت عن جذوره، وعن أصل وجوده وسر بقاءه، الذي يستمد منه الدفء والسكينة والطمأنينة، خاصة أن هذا الموجود فيض لا نهائي فبالتالي لا تنقطع أواصر الربط بينه وبين الخالق.
“وإذا كان التدين هو الربط بالمصدر، فإن هذا الربط ينشئ ثقة وأمن وطمأنينة في الحياة، لأن الصلة بهذا المصدر تحي الأمل وتبعث الرجاء في نفس الإنسان في مواجهة الهزيمة واليأس والقنوط.. ونحن نتوجه إليه بثابت اعتقادنا في وجوده، ووثيق طمأنينتنا لوجوده. يأتي التوكيد بوجود هذا الإله الكريم بأول عمل له وهو الصلة الحافزيه، حيث تدعم فطرة التدين وتحفز ثقة المحبة لمصدر هذا العطاء، ولكل الموجودات التي هو مصدرها لأنه يشترك معها في المصدرية، فالحب أساس الحياة لا التناقض والصراع” ومن هنا يشكل التدين لدى الفرد تحفيزا للعمل المتواصل، حتى لو لم يكن مردود لذلك مباشر، لأن التدين ينشئ لديه قناعة بالعدل من الخالق، مما يولد لديه اطمئنان بأن الله سوف ينصفه ولو لم ينصفه أحد.
التدين والأمن النفسي:
إن التدين في الإنسان ينشأ بوجود الإنسان ذاته، كجزء من كينونته وفطرته، أو كجزء من كيانه الذاتي. لقوله تعالى “فطرة الله التي فطر الناس الإنسان عليها” وقوله تعالى “وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم".
والتدين هو أحد المكونات الفطرية (الغريزية) لدى الإنسان، باعتبارها أمر متأصل في ذاته، لا ينشأ من واقعه الاجتماعي، بل يولد من داخله ومن فطرته التي فطر عليها، أي أن فطرة التدين تولد معه ولا تنشأ بتأثير عامل خارجي طارئ، ولا تتبلور عبر عوامل ومتغيرات الواقع.
فالتدين تلبيه لنداء ذاتي باطني ينطلق من حاجة الإنسان الداخلية النابعة من أعماقه، والالتزام بالتدين هو عملية تلبيه لهذا النداء الداخلي الباطني النابع من عمق الارتباط بين الدين والوجود الإنساني.
وقد اخطأ كثير من علماء الأديان، عندما حاولوا أن يبحثوا عن تاريخ للتدين لدى الإنسان، وكان الأجدر بهم أن يبحثوا عن آثار التدين في حياة الإنسان والمجتمعات البشرية.
وأما عملية الخلط بين مظاهر التدين فهو نابع من درجة القرب أو البعد من الدين الذي منشأه العلم الرباني المنزل عبر الرسل.
وهذا الخلط منشأه العقل، الذي من طبيعته أن يهتدي بمفرده (سواء بمستوى تفكير عالي أو بسيط) إلى أن هذا الكون الكبير بما يحوي من نظام لابد له من مدبر أو مصرف ولكن لا يصل بمفرده إلى وضع تصور صحيح للتعبير عن ذلك.
والتدين متأصل في الإنسان من جانبين الجانب الفطري (الغريزي) كباقي الأشياء المفطور عليها (كعاطفة الأمومة والأمن والتجمع وغيرها) والجانب العقلي، الذي يدرك بأن الآيات المبثوثة في نفسه وفي الكون من حوله لابد لها من صانع وخالق ومدبر، وبالتالي لا يمكن عقلا أن يكون هذا النظام والدقة المتناهية فيه بدون خالق أو مبدع مهما كان التصور عن هذا الخلق، ومهما أطلق عليه من تسميات ومسميات.
ومن خلال هذه المنظومة من الأفكار والتصورات عبر التدين الحق، ينبعث في النفس البشرية والطمأنينة والأمن، قال تعالى “الذين امنوا ولم يلبوا أيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن” لما لذلك من أثر في طرد الوحشة والقلق والاضطراب عن الإنسان.. فالعقائد الدينية والإيمان بالله القادر الحكيم العادل الرحيم، تخفف ولا ريب من الخوف والقلق، وتبعث على الطمأنينة والسكون.
قال تعالى: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” ( الرعد 28) ومما لا شك فيه أن الإيمان الناجم عن التدين الحق هو أقوى سلاح لبث الطمأنينة والأمن والسكينة في النفوس، حيث كلما زادت مساحة التدين زادت مساحة الأمن والطمأنينة في هذه النفس. فالأمن والطمأنينة والسكينة النفسية من آثار التدين والدين لدى الإنسان، وليس كما يظن البعض أن السكينة والطمأنينة تنشئ التدين فالإنسان لم يخترع التدين، إنما كان التدين بمثابة قوة نفسية عليا توهب الأمن والطمأنينة له.
فمثلاً المقاوم للعدو الذي يملأ الإيمان قلبه، هو أكثر أمنا وطمأنينة وسكينة من المقاوم الذي لا يعرف التدين لقلبه مكان، لوجود علاقة قوية بين الخوف والأمن، فهناك فرق بين دوافع التدين وآثاره وبين عدم التدين.
أي أن التدين الصحيح يحصل في ظله الأمن والطمأنينة، وكلاهما من الآثار المترتبة على هذا التدين. فمن آمن بوجود الله الخالق الباري مثلا قويت عزيمته وسكنت نفسه لأنه ربطها بقدرة مطلقة، وتحصيل ذلك يكون بعد التدين، فالخوف لا ينشئ تدينا ولكن يشكل هذا التدين.
إن التدين والعقيدة الصحيحة الناجمة عن هذا التدين، تشكل الفطرة والعقل روافدها، وهي نفسها التي تؤكد أن من أثارها الطبيعية المترتبة عليها الأمن والطمأنينة والسكينة، أو العكس. فالقران الكريم يجعل الطمأنينة والأمن والسكينة اثر من الآثار الطبيعية لذكر الله “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” “هو الذي انزل السكينة على قلوب المؤمنين” أي أن حصول الأمن والاطمئنان النفسي هو أمر من التدين، المفطور من الخالق، وهذه من أثار التدين الصادق للفرد.
التدين وتقوية الأمن المجتمعي:
إن تدين الفطرة والدين الحنيف، ينشي قانونا وضابطا، وميزانا سويا في ضمير وحياة الفرد، فإذا اختل سلوك الفرد يشكل هذا التدين بوصلة هداية تؤوب به إلى جادة الصواب والحق. وقد تميز هذا الضابط بان له حرسا داخليا يسمى الضمير، وحارسا خارجيا يسمى الشرع والقانون، فإذا افلت من عقاب الشرع والقانون عندما يخل بما تعارف عليه المجتمع من أمور وأرساه الشرع والدين من حقائق، يحاسبه ضميره ويؤنبه ويلاحقه في كل لحظة من حياته في حله وترحاله ، وفي ليله ونهاره ، وفي حركته وسكونه، حتى يقل مضجعه ويعكر عليه صفو حياته، بل قد يهدد أمنه واستقراره النفسي، ويجعله عرضه لكل غازٍ من الأمراض و الاضطرابات النفسية والجسدية.
وأضافه لما سبق فهذا التدين هو الوحيد الذي يجعل من شرعة وقانونه الواقعي ربطا بين الدنيا والآخرة، حتى لو افلت الإنسان من عقاب الدنيا على ما اقترفت يداه من آثام ومعاصي ، ومن شرور ومظالم ، فان عقاب الآخرة ينتظره، ويحيط به، وهو العذاب الأشد وقعا وأعظم هولا من عذاب الدنيا الذي قد يفلت منه الإنسان.
وهكذا فان التدين الصحيح والدين الحنيف يشكل قوانين وضوابط للإنسان والمجتمع، تسعى إلى توفير الأمن الشخصي للفرد أولا، ثم توفير الأمن الاجتماعي ثانياً.
التدين والاضطرابات النفسية:
إنه عندما تغزو النفس الاضطرابات من كل حدب وصوب، ويغدو القنوط واليأس يلف أرجاءها ويحيط بها من كل جانب يأتي التدين المنبعث من أعماق فطرة الإنسان ليبث الرجاء في النفس من جديد في مواجهة الهلع والخوف، وبذلك يبزغ فجر الأمل فيبعث الدفء والجمال للحياة، وتغدو في صورة جيدة خالية من ظلم التعاسة واليأس. لأنه من قلب اليأس والقنوط والخوف والهلع، تنبعث من قلب المؤمن ذو الفطرة السليمة كل معاني القوة والتحدي والصبر والصمود.
ومن خلال وجود فطرة التدين لدى الإنسان، تزيد بواعث الإنسان وتتحرك فيه إرادة البقاء والنماء، من أجل تحسين الحياة من حوله، وتزيد بالتالي نعمة فيها، ويتنامى من خلالها إحساسه بالمسؤولية، وبالتالي تزيد صلاته بالتدين والدين والخالق، وبالتالي تأخذ الحياة لديه معنى وبعد ذا قيمة وأهمية.
التدين والقلق:
لقد قاد الأنبياء مسيره البشرية، وجسدوا التدين في واقع الحياة، بالدين الحنيف عبر رسالة التوحيد التي نشروها في أرجاء المعمورة، حيث اخبروا الناس بوجود خالق لهذا الكون، يأمر بواجبات وينهى عن موبقات. ثم وضعوهم على طريق التدين الحق الذي لا شطط فيه ولا ضلال، وخففوا عنهم عبء البحث والتنقيب عن إشباع متطلبات فطرة التدين بما حملوا لهم من رسالات وكتب سماوية.
وكان هؤلاء الرسل بمثابة الطريق لتلبية حاجة التدين لدى الفرد، والطريق الأسلم لوصول العلم المنقول إلى الإنسان، حيث لا يستطيع الإنسان أن يهتدي بمفرده لقوانين الحق والخير والصواب في التعامل مع الحقائق الكبرى من حوله (الله- الكون- الحياة ) ولكنه يحتاج إلي مرشدين وهداة لهذا الخير. فكانت إجاباتهم عبر الرسالات هي منبع الأمن والأمان والسكينة والطمأنينة.
لذلك فإن التدين كفطرة، والدين كإشباع لها، قد مثل معرفة تدفع الخوف والقلق الناجم عن البحث عن هذا الإشباع، لأن العاقل يسعي دوما للتخلص من حالات الخوف والقلق والتوتر، والبحث عن الأمن والأمان والسكينة والاطمئنان.
التدين وقلق الموت:
تمتلئ حياة الإنسان بالمشاكل والمنغصات لقوله تعالى “يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا ” ولقوله “ولقد خلقنا الإنسان في كبد” وهذه والأزمات والمصائب تحتاج لقوة دافعة لها، أو لقوة تمتصها بشكل لا يترك منها رواسب في قاع النفس البشرية، مما قد يؤدي إلى تفاقمها بشكل مرضي داخل النفس.
ويتربع على أعلى سلم هذه الأمور التي قد تثير القلق والتوتر لدى الفرد “قلق الموت والفناء” وحب الخلود وهذا القلق والخوف هو باب الدخول الأول للنفس البشرية، حيث دخل منه إبليس إلى ادم عليه السلام فأخرجه وزوجه من الجنة. لكون غريزة وفطرة حب الذات وحب البقاء والخلود متأصلة في طبيعة هذا الإنسان مما يجعله يحرص عليها ويلج في البحث عن عوامل بقائها وديمومتها وهو لذلك ينظر إلى الموت كأكبر منغص على حياته، لكونه يضع حدا لهذه الحياة.
والتدين عبر الدين الصحيح يقود إلى وضع الموت في سياق الحياة، وإدراجه في سلسلة الخلود وبالتالي يرفع عن الإنسان حالة الخوف والقلق من انتهاء حياته بفكرة التواصل بين الحياة الدنيا والآخرة قال المولى عز وجل في التأكيد على ذلك “لا تحسبن الذين قتلوا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
فالتدين يجيب عن التساؤلات التي تساعد على فهم الحياة والتي تؤدي بالإنسان إلى الاستقرار والطمأنينة والأمن والسكينة، وتبعده عن الخوف والقلق والتوتر.
إن التدين، والدين الصحيح، والعقيدة الربانية، هي وحدها الرد الشافي والكافي لأجوبة الموت والفناء، والخلود والبقاء.
حيث أنها تعطي للموت مذاقا أخر ومفهوما أخر عن كثير من العقائد والأفكار. لأنها ترفض أن تنظر للفناء على انه فناء مطلق للإنسان، ونهاية لوجوده المادي والمعنوي، والحياتي والأخروي.
مما يعني عبثية هذه الحياة، وضياع لكل مجهود يبذل فيها، ولكل خير يزرع فيها، وبذلك يستوي العاملون وغير العاملون، المصلحون على المفسدون، والظالمون مع المظلومون.
إن التدين ينشئ لدى الإنسان أمنا نفسيا داخليا، لأنه يطمئن إلى أن الكون وما فيه مقدر بقدر، وموزون بميزان ومحكوم بنواميس وقوانين، تصرف حياته وتدير نشاطه، وتوقع الجزاء والعقاب فيه باعتباره من سنن الوجود فعندما يحسن الإنسان لا بد له من جزاء.. إن لم يكن دنيويا فهو أخروي، وإن أساء فلا بد له من عقاب.. إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.
مما يولد لديه طمأنينة نفسية، فلا يعتدي ولا يظلم، وإن ظلم فحتماً سيأخذ حقه ممن ظلمه، في دنياه أو أخرته، قد يسامح ويعفو وقد يقتص، وهذا هو العدل الذي يربطه بخالقه عبر تدينه.
فالموت في العقيدة الإسلامية قيمة، كباقي الأشياء الحية، بل هو المعبر الوحيد للحياة الأبوية للإنسان، الذي رسم مسارها وفق ما أحب ورضي في هذه الحياة الدنيا، وبالتالي كان الموت للإنسان هو مجرد انتقال من عالم ضيق إلى عالم أرحب وأوسع وأفسح. وبالتالي فان الموت يصبح لدى البعض (الشهداء) مطلبا يحرصون عليه كما يحرص الآخرون على الحياة،لأنه يحقق لهم الخلود واستمرار الحياة الحقيقية في الآخرة.
التدين والمادية المفرطة:
إن التدين الذي يمثله الدين الحنيف له أثر كبير وفعال في الحد من غلواء الإنسان تجاه الحب المفرط للشهوات بحيث يعمل على مد الإنسان بقيم وتعاليم أخلاقية تحد من هذا الغلو والإفراط وبالتالي تمنحه مصلا يقيه من الحرص الزائد عليها ذلك الحرص الذي قد يولد النهم لها، الذي يسببه الحرص الزائد بالحصول عليها، وإشباعها بكل الطرق والسبل.
إن التدين الحق يقدم للإنسان الإرشادات والنصائح، وكذلك الطرق المناسبة للوقاية والعلاج في آن واحد من هذا الإفراط، وذلك من خلال منهج الثواب والتعزيز، فتبث في الإنسان معايير القناعة والرضا بما قسم الله وكذلك تطهير وتزكية النفس بالزكاة والصدقة لقولة تعالى: ” خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها وتزكيهم".
وفي نفس اللحظة العقاب والوعيد والتهديد من جهة أخرى لقولة تعالى: ” ولا تجعل يدك مغلولة على عنقك” وبذلك هذب هذه المادية بين الإفراط والتفريط تجاه المادة.
لقد فطر الإنسان على حب الخيرات وخاصة المال والولد قال تعالى “انه لحب الخير الشديد” “إنما أولادكم وأموالكم فتنة” “المال والبنون زينة الحياة الدنيا” والإنسان في هذه الحياة يسعى جاهدا ليوفر المال والولد، وهذه الغريزة والفطرة التي فطر عليها، هي مطلب عادل وحق مشروع والتدين المبرمج بالدين الحنيف، وهو الإسلام لقوله تعالى “إن الدين عند الله الإسلام” من لدن ادم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يهذب من غلواء هذه الشهوة.
إن كثيراً من الناس يلهث خلف هذه الشهوات، وتصبح هذه الشهوات وإشباعها جل حياته وقبلة وجوده، وعندما يتعذر عليه إشباعها وفق ما يصبو ويريد يصاب بحالة من الغم والحزن والكآبة، ويحس بحرارة شديدة تنغص عليه حياته وكيانه وتخل بتوازنه الداخلي، وتهدد بالتالي أمنه النفسي.. ويأتي التدين الفطري معززا بالدين الحنيف ليعيد لهذا الإنسان حالة الاتزان والاستقرار والأمن والأمان والسكينة والاطمئنان في كل كيانه.
التدين ومواجهة المصائب:
الحياة مليئة بمنغصات واقعية آنية، لا تكاد تخلو منها حياة فرد من البشر، وهي تغطي مساحة لا باس بها من حياة الإنسان، وهذه المصائب والنكبات التي تحل بالإنسان تجعل من حياته هما وغما، ونكدا وحزنا، وكلما كان الإنسان فارغا من مضارات حيوية نفسية لها كلما أوغلت في نفسه حتى تقوده إلى مهاوي الردى، الممثلة في تحوله لإنسان حطام يتهاوى في مهب رياح الحياة التي تعصف به من كل حدب وصوب.
إن الحزن الشديد والغم قد يقود إلى حالة من التوتر النفسي أو الاضطراب النفسي أو حتى المرض النفسي، ولا خروج منها بمصل ومناعة قوية، إلا بإعادة النفس إلى حالة التوازن النفسي الداخلي والعودة إلى حالة الوسطية “وجعلنا كم امة وسطا” وذلك بالتحرر من الخوف والقلق والتوتر والوصول إلى الأمن والأمان والسكينة والاطمئنان.
إن التدين كفطرة، والدين كعقيدة، يقدم حماية ووقاية للنفس البشرية على صعيد الأمن النفسي الداخلي، تفسيرا للمصائب والمحن والابتلاءات التي تصيبه بمفهوم يعزز من حالة الأمن النفسي الداخلي ولا يزيده خوف وقلق.
إن التدين الحق يعتبر المصيبة اختبار ومحنة وابتلاء، وبالتالي فهي درس للإنسان لكي يستفيد منه في واقع حياته للنهوض إلى المستوى الأفضل والأحسن على مستوى الحياة الدنيا وعلى مستوى الآخرة فإن المصائب والابتلاءات تحط الخطايا والذنوب وتزيد من تحلل من ما بها من شوائب وأخطاء إضافة إلى أن هذه المصائب إذا قوبلت بالصبر والمثابرة فإنها تزيد من رصيد حسنات الإنسان في بنك الآخرة.
وهذا كله يحرر الإنسان من عوامل الخوف والاضطراب والقلق والتوتر، ويقوده إلى الأمن والأمان النفسي والسكينة والاطمئنان القلبي، التي تذهب عنه الحزن وتزيل عنه الغم والكدر.
التدين ومعالجة الأزمات:
إن التدين، عبر الدين الحنيف، بمقدوره القيام بمواجهة ومجابهة عوامل الاضطراب والتوتر والمرض النفسي، وبالتالي تحقيق الأمن والأمان والطمأنينة والسكينة للإنسان..والتدين المتمثل بالدين الحنيف يتبين العرض السابق بأن له أثر واضح في خلق الأمن النفسي الداخلي لدى الإنسان الذي يقتدي به ويجعله نبراسا يضئ به درب حياته في الشدة والرخاء.
وهو بالتالي يعالج الدين والعقيدة الدينية الصحيحة، وكل ما يمر بالإنسان من أزمات واضطرابات وأمراض نفسية ويخفف من شدة وطأتها وغلوائها.
لان الإنسان عندما ينظر إلى علاقته مع الحقائق الكبرى من حوله (الله، الكون، الحياة) من خلال الدين والتدين الصحيح، فإنه يتحرر من كل عوامل الخوف والقلق والتوتر، ويقوده إلى بر الأمن والأمان والسلامة والإسلام، ويحقق له السكينة والاطمئنان، وبالتالي يحصل على الأمن النفسي الداخلي الذي لا تساويه نعمة ولا تدانيه منه.. ولقد أكد هذه المعاني المولى عز وجل في قوله تعالى: “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ” (الأنعام 82) ” ألا بذكر الله تطمئن القلوب” (الرعد 28) ” ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (موسى 62) “هو الذي أنزل السكينة على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا” (الفتح 3) ولما لهذا الدين والتدين به من أثر عظيم في الحياة الإنسانية، وخاصة على صعيد توفير التوازن والاستقرار والأمن النفسي فلا بد من التمسك به وبأهدابه والعض عليه بالنواجذ.
التدين وتحقيق التوازن في الغرائز:
يملا كيان الإنسان حيزاً لا باس به من الغرائز والشهوات وحب الذات لا تعرف الحدود، ولا تقف عندها سدود كلما أشبعها الإنسان زاد النهم تجاهها، حتى يأتي التدين الحنيف والدين الصحيح ليأخذ موقعه المناسب ليحسن تصرفها ويوقف غلوائها، ويسد جوعها، ويهذب مخارجها، ويجعل منها مقودا لا قائدا، ومضبوطا لا ضابطا، وموزونا لا ميزانا.
ومن آثار التدين حفظ التوازن “لأن من فطرة الإنسان تحقيق التوازن عن طريق الإشباع أو خفض التوتر أو اختزال الحاجة أو الحافز”.. فالإنسان يسعى دوما إلى التوازن، لكن اللذات والشهوات تحرفه لعدم التوازن.
فاللذة والشهوة تحرف الإنسان لعدم التوازن، والتدين يشده إلى التوازن، والتخلص بالتالي من التوتر والقلق.
وبهذا يكون التدين قد أعاد إليها اتزانها وتوازنها، وفتح شراع مسيرها بضابط من التقي بالنهي عن الهوى، والدخول في الهدى، الذي قال عنه المولى عز وجل “ومن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى” وقال “ومن اعرض عن ذكرى فان له معيشة ضنكا".
وهكذا يظهر دور تدين الفطرة والدين الحنيف جليا من خلال خلق حاله من الأمن النفسي للإنسان، حيث لو ترك الإنسان لوحدة بلا تدين الفطرة وبدون الدين الحنيف، أي بلا هداية الفطرة وبلا ضوابط (الدين) فلا يمكن أن يصل بنفسه إلى الفضائل الخيرية، لان الخير وان كان من جبلة الإنسان، فان الشر كذلك من جبلته، والفاصل بينهما هو الدين الحنيف القائم على نقاء وصفاء الفطرة.
فالإنسان مهما كان لديه يميل للخير، ونبذ للشر، إلا أن مغريات الشر وتزينه له يهبط به أحيانا إلى درجة من الانحطاط ما تهبط به لمستوى متدني من البهيمية والحيوانية.
وهنا يهب الدين لنجدة الخير ونصرته، ويعيد الأصفاد لقوى الشر، وبالتالي ينفذ للنفس ليحقق لها الاستقرار والطمأنينة والأمان.
التدين يولد القناعة:
التدين الحق يولد لدى الإنسان قناعة بأن ما وصله من الرزق أو ما أصابه من مصيبة هي مقسمة له وإن الله لن يقطع أحد حيث يصل عندما يقطع وإذا قطع فإنه يؤمل..ومن هنا فإن التدين يجعل الإنسان مطمئن إلى أن نصيبه من هذه الحياة سوف يصل إليه فلا يخشى ضياع حقه، ولا يتوجس في ذلك.
والتدين الصحيح يولد الحمد والشكر لدى الإنسان للنعم ويبعد عنه الهلع والطمع والجري وراء الرزق بدون كلل أو ملل. لأن التدين يولد القناعة ويولد قوة الاستغناء (الذي هو أغنى وأقنى) فالغنى من الخالق، وقد تمت الأرزاق من لدنه، فلا يمد الإنسان عينيه إلى غيره، فيصاب بالأمراض النفسية (فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به غيرك).
” فالفطرة موقنة، أما الهواجس فهي التي تطفئ نور الطمأنينة، لتشكل مكانها نيران الشكوك التي تضرب بشواظ لهيبها في أرجاء الروح فتحرق أغلى ما تحرق ثقة الطمأنينة من عطاء الله ويقين العدل في مدد رحمته إن الإحساس بالصلة هو أصيل حياة الرجاء والإحساس بالثقة هو أصل اليقين بالعدل كان الرجاء والعدل من أعمال إحساس المدد في الفطرة لكن هذا الإحساس بالمدد له دوران آخران أكثر حيوية في النشاط النفسي الوجودي الروحي للإنسان وهما الحفز والحمد ..يتعرف الله إلينا بفيض رحمته، ونتعرف عليه بنعمة".
والتدين يصقل النفس بالقناعة، وبالتالي بدل التوجه للتذمر المستمر والمتواصل وبدل من ندب الحظ ، وبدل من لعن الحياة وبدل من صرف طاقة نفسية هائلة في التحسر على ما فاته منها، تسري في روحه الشعور بالرضا والطمأنينة بالقبول بما قسم الله ورزق، فلا تلهج بدون شبع لاكتساب المزيد والمزيد دون توقف لإدراكها أن امتلاك كل شيء محال، فنصيبها من النعم حق مكفول ولا حاجة لما عند غيره.
إن التدين الحق يعني الإقرار للخالق بالنعم التي يفنى عمره في طلبها، وحمده هذا يولد لديه القناعة ثم الرضا ثم السكينة والاطمئنان، ثم البذل والعطاء وهكذ دورة متواصلة تسلم الواحدة منها إلى الأخرى، لا تتخللها أو تخترقها سهام اليأس والقنوط والوهن والخوف لأن حياته ونشاطه كله موصول بقدرة المولى عز وجل.
التدين ونعمة الحمد والشكر:
الحمد أفضل سبيل لبعث الاستقرار والطمأنينة، لان النفس عندما تحمد الله وتشكر الناس فإنها تكون في أفضل الحالات تجليها وأنصع مقامات نقاءها وصفاءها، فلا يصيبها الكدر ولا يتملكها الملل ولا يستعبدها الوهن.
فالشخص عندما يحمد الخالق حمدا كما يليق بجلال قدره وعظيم سلطانه فإنه يحقق الوصل به، ويستمد بالتالي من خلال هذا الوصل والاتصال قوة تبعث فيه تحديا لكل عوارض الوهن والضعف.
لأن الحمد في حقيقته يولد قوة اكتفاء وقناعة وفي نفس الوقت استغناء واستعلاء عما في يد الآخرين.
فالحمد تحرير لذات الإنسان من سيطرة شهوة التملك التي لو ترك لها العقال لا تكتفي أبدا ولا تنتهي مطلقا وكما يقولون لا يملأ عين الإنسان إلا التراب.
الحمد ينشر في أرجاء النفس الرجاء والقناعة، بل السعادة والبشر بل والرضا والأمن وكلها معان إذا تملكت قلب إنسان أحالته لجنة من جنان الرحمن لأنها في ظل هذا الجو الهانيء الدافئ تسبح في كنف الخالق راضية مرضية، لأنها سلمت بقضائه وقدره ولم تولول ولم تجزع أو تنكسر.
إن الهزيمة والانكسار تولد الوهن والضعف وكما هو حال الجسد الواهن، تكون النفس الواهنة يسيطر عليها كل اضطراب وينخر كيانه الأمراض النفسية التي هي أشد وأقوم وقعا.
إن من أهم فضائل الحمد أنه يحرر الإنسان من قيد الشهوة، شهوة الحرص والاستغراق في البحث عن اللامتناهي، فالنفس التي لا تحمد لا تشبع تعيش، والنفس التي لا تشبع تعيش في حالة استنفار دائم دون استقرار وتوتر متواصل وحالة خوف على الدوام لا أمن ولا أمان فيها. وصدق المولى عز وجل وهو يقول “وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين” وهي كلمة تفتح حياتك باسم الله وتنهيها بحمد الله، لا تصل إليك الهموم ولا تغزوك الظنون ولا تقض مضجعك الشجون.
” كما يعطي التدين إحساس متين بالثقة بأن عطاء الحياة والوجود وخالق الحياة ومدبر الحياة عطاء واصل موصول دائم كل موجود ينال منه… وكذلك هذا الإحساس بالثقة بالمدد الواصل الموصول هو أصل اليقين بالعدل … باعتبار أنه واصل في أوانه وبقدره، إحساس بأن العطاء عطاء عدل وان المدد مدد قسط".
التدين والأخلاق الفاضلة:
إن تدين الفطرة والدين الحنيف يقود إلى الأخلاق الفاضلة، والأخلاق الفاضلة تعود على الفرد بالحب والإخاء والراحة والسكينة والأمن والاطمئنان والرضي، وتعود على المجتمع بالرخاء والأمن الاجتماعي.
كما ويظهر اثر التدين من خلال بث فضيلة الأخلاق في النفوس وجعل أن هناك معاني جميلة في الحياة لا تقتصر على التقوقع والتمركز حول الذات أو الأنانية المفرطة للذات، أو إلغاء الأخر أو تجاهل الأخر، بل يجعل من سعادة الفرد أن يضع في فم أخيه المحتاج لقمة العيش، أو يتصدق في وجه أخيه بابتسامة صادقة ، أو يربت بحنو وعطف وحنان على رأس يتيم ، أو يواسي مريضا أو سجينا ، أو يشاطر أهل شهيد مشاعرهم وأحاسيسهم .
الأمر الذي سوف يعود عليه حتماً بالرضي عن النفس والذات ، من خلال تحقيق هذا الجو الدافئ من العلاقات مع الآخرين، ويزداد رضاه وسعادته عندما يقابله الآخرين بنفس المشاعر والأحاسيس، فتسود في المجتمع أسس التعزيز الانفعالي، ودعائم التعزيز الاجتماعي، ذلك التعزيز الذي يشكل حيرا هاما ومهما من مواساة الناس لبعضهم البعض ومشاطرتهم لبعضهم مشاعر الحزن والفرح، والسرور والترح ، مما يعود على الفرد بمزيد من الرضي والاستقرار والسكينة الداخلية والأمن والأمان. وعلى المجتمع بالحب والإخاء وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لخص هذه المعايير السامية بقوله “الدين المعاملة
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية