غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين من خلال سلوكياته وتوجيهاته الكريمة فضيلة «القناعة والرضا»، وحارب رذيلة الطمع والتطلع إلى ما في أيدي الناس، ومن شأن من يلتزم بهذا الخلق الكريم أن يعيش سعيداً راضياً قانعاً بما رزقه الله عز وجل به فكل متع الدنيا زائلة، وسعادة الإنسان لا تحققها الوظائف المرموقة، وكثرة المال، والقصور الفاخرة، والسيارات الفارهة، بل يحقق تلك السعادة: عمل صالح، ورضا بالرزق بعد السعي والعمل الجاد، وعطف على الفقراء وأصحاب الحاجات.. وما أجمل أن يستمتع الإنسان برؤية ثمرة عمله وكفاحه تحل مشكلات، وتسهم في إنهاء أزمات الآخرين.
القناعة التي علمنا إياها وأوصانا بها رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم تعني كما يقول د. محمد الأحمدي أبو النور، أستاذ السنة النبوية، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أن يرضى المسلم بما قسمه الله له ولو كان قليلاً، وألا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وألا تمتد يده إلى ما تحت وصايته أو في متناول يده من المال العام، أو أموال الآخرين، فهذه القناعة تجسد الشخصية السوية للمسلم، وتؤكد صدق إيمانه، وهنا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجهاً ومعلماً: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه».
وهنا نسأل د. أبو النور: ما علامات ودلالات القناعة والرضا في حياة رسول الله وتوجيهاته الكريمة؟
يقول: المتتبع لأسلوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومع زوجاته وفي حياته كلها يجد الرضا والقناعة في أسمى صورها، فقد كان نموذجاً ومثلاً أعلى في القناعة والرضا، حيث عاش حياته الشريفة راضياً قانعاً بما رزقه الله، لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، فكان - صلى الله عليه وسلم - يعمل في التجارة في مال السيدة خديجة - رضي الله عنها - ويكسب كثيراً ولا يطمع فيما يكسبه، وكان صحابته يعرضون عليه الأموال التي يغتنموها في المعارك فلا يأخذ منها شيئاً، بل كان يوزعها على أصحابه.
وهذه القناعة التي عاشها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انعكست على سلوكيات وأخلاقيات زوجاته، فكن مثالاً في الزهد والرضا بما قسمه الله، والجود بما في أيديهن على الآخرين.
يروي لنا د. أبو النور موقفاً لزوجة رسول الله السيدة عائشة - رضي الله عنها - حيث تلقت كمية من العنب كهدية فطلبت من خادمتها التصدق بها على الفقراء والمساكين، فأخفت الخادمة بعض هذا العنب.. وفي المساء أحضرته فسألتها السيدة عائشة رضي الله عنها: ما هذا؟ فأجابت: ادخرته لنأكله.. فقالت السيدة عائشة: أما يكفي عنقود أو عنقودان؟!
الرسول يعلم ويربي:
كما ينقل لنا د. أبو النور موقفاً للرسول مع الصحابي الجليل «حكيم بن حزام» ليوضح كيف كان رسول الإنسانية يربي أتباعه على الرضا والقناعة، ويواجه ما يعتري نفوسهم من مظاهر وعلامات الطمع، فقد ذهب «حكيم» إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله أن يعطيه من الأموال فأعطاه.. ثم سأله مرة ثانية فأعطاه.. ثم سأله مرة ثالثة فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له معلماً: «يا حكيم: إن هذا المال خضر حلو (أي أن الإنسان يميل إلى المال كما يميل إلى الفاكهة الحلوة الذيذة) فمن أخذه بسخاوة نفس (أي بغير سؤال ولا طمع) بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا (التي تعطي) خير من اليد السفلى (التي تأخذ)».. فعاهد حكيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يأخذ شيئاً من أحد أبداً حتى يفارق الدنيا، فكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يطلبه ليعطيه فيرفض أن يقبل منه شيئاً، وعندما تولى عمر الخلافة دعاه ليعطيه فرفض حكيم، فقال عمر: «يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء (الغنيمة) فيأبى أن يقبله»، وهكذا ظل حكيم قانعاً، ولا يتطلع إلى المال بعد نصيحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي تعلم منها ألا يسأل أحداً شيئاً حتى إنه كان يتنازل عن حقه ويعيش من عمله وجهده.
ومن مظاهر قناعته - صلى الله عليه وسلم - نهيه الدائم عن التهالك على حطام الدنيا وذلك في أحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «ألهاكم التكاثر، قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت».
وفي هذا التوجيه النبوي الكريم يتلمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الحق سبحانه في سورة التكاثر: «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم».. فهذه الآيات الثماني من سورة التكاثر تنهى عن التفاخر بالتكاثر وتحض على التزود بالعمل الصالح، وعلى ما ينجي من العذاب، وعلى إدراك أن القناعة هي أساس علاقة الإنسان بالمال، وغير ذلك من متع الحياة.
غنى يجلب السعادة
ومن مظاهر ودلالات القناعة والرضا - كما يقول د. أبو النور - دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فضيلة أخرى يجب ألا تفارق أي مسلم، وهي «عفة النفس»، حيث يقول في الحديث الصحيح: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس»، فكل إنسان يحب أن يعيش غنياً سعيداً، غير أن الغنى الذي يحقق السعادة - كما يعلمنا ويوجهنا رسولنا الكريم - ليس هو غنى المال، فقد يكون من ورائه شقاء كبير إذا لم يعصمه خلق أو دين، فالذي يجعل الدنيا أكبر همه يركب لها الصعب والذلول، ويسلك من أجلها كل طريق، لا تهمه قيم أدبية ولا مبادئ خلقية، إنما الغنى الحقيقي الذي يوفر للإنسان سعادته هو غنى النفس وعفتها وكرامتها، والذي يساعد على ذلك إيمان بالله يضع كل الثقة والرجاء فيه، وإيمان بحقيقة الحياة التي لا تستقر على حال، وإيمان بأن قيمة الإنسان مرهونة بما يملكه من رصيد خلقي وعمل خيري يعيش به محبوباً بين الناس مرضياً عنه من الله.
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن عمل إذا عمله أحبه الله وأحبه الناس، فقال له «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»، والمراد بالزهد هنا عدم تعلق القلب بالدنيا تعلقاً يمس الشرف ويذهب الكرامة، وقد تربى السلف الصالح على هذا الهدي الكريم، وآمنوا بأن القناعة كنز لا يفنى، فارتضوها شعاراً عاشوا به ملوكاً بين الناس يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، قليلة أموالهم ولكن كبيرة نفوسهم، رقيقة أحوالهم ولكن عالية هممهم.
ثمن الطمع
كل ما سبق من سلوك نبوي كريم وتوجيهات عظيمة تؤكد ضرورة أن يتسلح المسلم بسلاح القناعة والرضا لا نراه - للأسف الشديد - في سلوكيات كثير من المسلمين حيث لم يعد لشعار (القناعة كنز لا يفنى) وجود في حياتنا المعاصرة، بعد أن سيطر الطمع والجشع على الكثير ودفعهم إلى إذلال أنفسهم من أجل الحصول على مزيد من المال..أو ارتكاب جرائم ألقت بهم في غياهب السجون أو التصرف مع الآخرين بأسلوب خال من الرحمة والرأفة ففسدت علاقاتهم بكل خلق الله.
يقول د. يوسف إبراهيم، أستاذ الاقتصاد الإسلامي ومدير مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر: رذيلة الطمع والجشع تسيطر على سلوك كبار الموظفين وصغارهم في بلادنا العربية، وتدفعهم للسطو على المال العام بطرق ووسائل وحيل كثيرة، كما شاع الكسب الحرام بين فئة من الناس لا يهمها الحلال لكن يهمها تضخيم ثرواتها بأي أسلوب، وشاع الطمع والجشع بين الناس من منتجين وتجار وموظفين فانتشرت أخلاقيات سيئة مثل الغش والتزوير والاختلاس والرشوة وكل يوم يدفع الآلاف من الناس ثمن طمعهم وجشعهم وعدم قناعتهم بما قسمه الله لهم، فلقد غابت فضيلة القناعة عن حياة الكثيرين وسيطرت القيم المادية على حياة معظم الناس، فأصبح همّ كل إنسان كيف يجمع المزيد من المال وكيف يمتلك أفخم المساكن، ويركب أحدث السيارات بصرف النظر عما إذا كان ذلك من حلال أو حرام.
وغياب القناعة والرضا هو الذي يدفع ضعاف النفوس - كما يقول مدير مركز الاقتصاد الإسلامي بالأزهر - إلى تقبل الرشى، وعدم الالتفات إلى العقوبات الرادعة التي توقع على المرتشين والفضائح التي تلاحقهم وتلاحق أسرهم، ومن المؤسف أن وباء الرشوة يتزايد يوماً بعد يوم.. ولم تعد العقوبات وحدها تكفي لمواجهة قوافل المرتشين في كل المواقع.
مواجهة إسلامية
وعلاج ذلك في نظر د. يوسف إبراهيم لا يكون بالعقوبات وحدها، بل يجب قبل التفكير في العقوبة العمل على نشر القيم والأخلاق الإسلامية وإشاعتها في حياة الناس، خاصة خلق القناعة والرضا الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة والمثل فيه.
ويرى أستاذ الاقتصاد الإسلامي بالأزهر أن الانحرافات المالية التي انتشرت في العديد من الدول العربية والإسلامية تكشف عن تدهور أخلاقي مخيف..
فالمسلم السوي من المفترض فيه أن يكون أميناً عادلاً منصفاً لا تمتد يده إلى الحرام حتى لو جاع ولم يجد مقومات الحياة الضرورية، لكن للأسف نجد الآن بعض كبار المسؤولين الذين يمتلكون المال والنفوذ والشهرة يضعفون أمام طمع نفوسهم وتمتد أياديهم إلى الحرام ورغم العقوبات القاسية التي تنتظرهم أو توقع عليهم والفضائح التي تلاحقهم فإن الآخرين لا يعتبرون بما يحدث لهم وتتكرر جرائم الرشوة والسرقة والاختلاس والعدوان على المال العام كل يوم.
وإذا كان انتشار هذه الأخلاق السيئة بين المسلمين اليوم سببه ضعف الوازع الديني وفقدان التربية الصحيحة منذ الصغر وسيطرة قيم مادية ونفعية على حياة الكثيرين، فإن المواجهة لا يمكن أن تكون قانونية أو أمنية فقط، بل لا بد من المواجهة الإسلامية عن طريق نشر الأخلاق الإسلامية وتوضيح العقوبات الأخروية التي تنتظر الطامعين والمنحرفين مالياً..
هؤلاء الذين يهدرون حقوق الناس، ويطمعون بما في أيديهم ويأكلون أموال الناس بالباطل.
وليعلم الجميع أن الطمع بما في أيدي الآخرين أو الطمع في المال العام يجلب لصاحبه الشقاء والتعاسة في الدنيا ولنا فيما نراه في واقع الحياة العبرة والمثل.
فقد حصد كبار المسئولين في بلاد عربية ما يمكن حصره من المال الحرام وكانت هذه الأموال الحرام وبالاً عليهم، حيث دخلوا جميعاً السجون وحرموا من أموالهم وقصورهم وزوجاتهم وأموالهم ويعيشون حياة كلها شقاء لا تعوضهم عنها كل أموال الدنيا.
اعلموا أن العفة وغنى النفس والقناعة والرضا فضائل نشرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين ليوفر لهم العزة ويحصنهم بالكرامة، ليعيش المسلم عزيزاً كريماً، حتى ولو لم يمتلك من حطام الدنيا شيئاً.
ما أحوجنا إلى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.