لعل هذا العُنْوَان لا يُثِير حَفِيظة البعض، وهو يرى أفراد الأسرة الواحدة يعيشون تحت سقف واحد، ويلتقون صباحًا ومساءً في صالة المعيشة، وفي غُرُفات البيت، وقد تجمعهم وجبة الغداء على الأقل، إلا أن هذا وأمثاله قد يغيِّر رأيه بعد الاطلاع على هذه الدراسة، وغيرها من الدراسات الاجتماعية التي تتناول الأسرة والتحديات التي تواجهها في هذا العصر.
منذ وُجِد الإنسان على البَسِيطة - الأرض - وهو يتحرك بمحرِّكات تحرِّكه، منها محرك القِيَم؛ حيث يحدِّد عَلاقاته مع غيره من بني جنسه، وقد يكتسب الطفل قِيَمه منَ الأسرة، ثم المدرسة، ثم المجتمع في الماضي، وأصبحت هناك بدائل لهذه المؤسسات الاجتماعية، بل وتراجعت هذه المؤسسات بدرجة كبيرة، وحلَّ محلَّها أجهزة التكنولوجيا في تربية الأنباء.
هذا اعترافٌ مِن أحَد الأطفال، قائلاً: لا أريد أن ألقي اللوم على أحد، ولكني للأسَف، لم أتلقَّ تربية سليمة منذ صغري، فتربيتي وثقافتي تلقيتها من التلفاز وقنواته الفضائية، واليوم يلومني أهلي على تصرُّفاتي المؤذية لمشاعرهم، ومشاعر الآخرين، ولم يسألوا أنفسهم أولاً عن أسباب تصرفاتي السيئة.
وأصبحت وسائل التكنولوجيا مَدْعَاةً للهروب من التعامل المباشر، وإقامة العَلاقات الاجتماعية، بادِّعاء الانشغال بها، وإنَّ ضَعْفَ هذه العَلاقات وندرة القيام بالزيارات الاجتماعية، يضعف التحاور، وتبادُل الخبرات والمشاعر، وتُسْتَبدل الرسائل القصيرة بها، تقول: "كل عام وأنتم بخير - رمضان كريم - عظَّم الله أجركم – وغيرها.
اللافت للنظر عدم فَهم النِّسَب العالية في قضاء الفرد - صغيرًا وكبيرًا - أمام التِّلْفاز لساعات طويلة، إلا أن هذه الدراسة الحالية تبيِّن أن الإنسان اجتماعي بطبعه؛ فإذا ضَعُفت علاقته بأفراد أسرته، وجد البديل في جهاز التلفاز وغيره من أجهزة التكنولوجيا، وعرف أنَّ هذه الأجهزة حلَّت مكان الأبوين للأبناء، لكثرة مكوث الأبناء أمام هذه الأجهزة والتفاعل معها، لكنَّ التعامل مع هذه الأجْهِزة يُضعف عَلاقة الأبناء بوالديهم، وتنتشر أمراضٌ نفسية بينهم؛ مثل: الاكتئاب، وحب العزلة، والانطوائية، وتَقِل قابليته على قبول قيم المجتمع، وثوابت الدين، ويحل محلها قيم روَّاد ومُستخدمي أجهزة التكنولوجيا.
بيَّنت الدراسات النفسية أن أكثر الأفراد تعرضًا لخطر الإصابة بمرض إدمان الإنترنت، هم الأفراد الذين يُعانون من العُزْلة الاجتماعية، والفشل في إقامة عَلاقات إنسانية طبيعية مع الآخرين، والذين يُعَانون من مخاوفَ غامضةٍ، أو قلة احترام الذات، الذين يخافون من أن يكونوا عُرْضَة للاستهزاء، أو السخرية من قِبَل الآخرين، هؤلاء هم أكثر الناس تعرضًا للإصابة بهذا المرض؛ وذلك لأن العالم الإلكتروني قدَّم لهم مجالاً واسعًا لتفريغ مخاوفهم وقلقهم، وإقامة عَلاقات غامضة مع الآخرين، تخلق لهم نوعًا من الأُلْفة المزيَّفة، فيصبح هذا العالم الجديد الملاذَ الآمِن لهم، من خشونة وقسوة عالم الحقيقة - كما يعتقدون - حتى يتحول عالمهم هذا إلى كابوس يهدِّد حياتهم الاجتماعية والشخصية للخطر.
هذه الثورة تأخذ بعض الصور؛ منها: الكلام الإعلامي الذي تبثُّه الفضائيات ذات التوجه الإسلامي، وهذا الكلام روَّاده أو مستمعوه ومشاهدوه قلَّة قليلة؛ بسبب التنافُس بين الفضائيات الإسلامية وغيرها من الفضائيات؛ حيث إنَّ الفضائيات غير الإسلامية أكثر عددًا، وأكثر انتشارًا ورغبة لدى الناس عامة، ومع ذلك نُسَجِّل بعض الاعترافات والسلوكيات التي قام بها بعضُ الأفراد ضد أجهزة التكنولوجيا، سواء كانت هذه الاعترافات صادرة من المسلمين أو من غير المسلمين.
تدعو إحدى مستخدمات "الشات" الفتيات مثلها إلى الابتعاد عن غرفة المحادثة؛ لأنها تؤدِّي إلى الندامة، وليس وراءها منفعة.
تأثَّر الأطفال والمراهقون والشباب بأفلامِ ومسلسلاتِ التِّلْفاز، إلى درجة التقليد الأعمى لأبطال وهميين، وتقليدهم بارتكاب جرائم، وقد كان هذا التقليد وراءَ انزواءِ وبُعْد جيل الصغار والمراهقين عن جيل الكبار، في العادات والتقاليد والأفكار، وعدم سيطرة الكبار على هؤلاء الأحداث، بسبب اغترابهم وانعزالهم عن محيطهم الاجتماعي.
حذَّر علماء وباحثون من إدمان الشباب والأطفال لأجهزة التكنولوجيا - خاصة شبكة الإنترنت - وبالخصوص صفحة "الفيسبوك"؛ حيث إنها تعزلهم عن محيطهم الاجتماعي، وتجعلهم يتعاملون مع أصدقاء افتراضيين.
وقد كانتْ غُرفة الدَّردشة في السابق المتنفَّس الوحيد للشباب للتواصُل مع الشباب الآخرين، حتى ظهر (الفيس بوك)، وجعلهم أكثر إدمانًا للإنترنت وأكثر عزلة عنْ أسرهم؛ لأسبابٍ عديدة منها: الفضول، ومحاولة إظهار المستخدِم لشخصيته، وبأنه حاضر دائمًا في الإنترنت، إذ يعرض صوره، ويطَّلع على صور الآخرين، كما أنه يكتب تعليقات، ويطلع على آخرين وهذا يتطلَّب منه الكثير مِن الوقت، إلى درجة أنه لا يجد فُرصة للحديث مع أي شخص.
مواقع التواصُل الاجتماعي لا تقوِّي عَلاقة الإنسان ببني جنسِه - وإن كان ذلك في الظاهِر - فهي تجعله في جل وقته منعزلاً عنْ مُحيطِه الاجتِماعِي، بل قد تدفعه إلى التواصُل مع أشخاص وهميين أو مخادعين، فيقع فريسةً للابتزاز والمكر.
قد لا يرى الزوجُ زوجته إلا لساعاتٍ معدودة، بسبب عمله، وعمَلها خارج المنزل، بل ويصِل الأمر إلى أنَّ الزوج يُسافر من أجل العمل، أو تُسافر زوجته أيضًا، ويصبح الأولاد تحت رعاية الخدم؛ فتضعف عَلاقة الأولاد بالوالدين؛ لأنهم لا يجدون الحنان، ولا الشفقة، ولا التربية إلا من الخدم، وما يشاهدونه بالتلفاز.
كذلك مُكُوث الأطْفال لمُشاهدة أفلام كرتونيَّة لمدة طويلة، تَجْعلهم ينْعَزِلون عن والديهم؛ خاصة إذا أدمن الأطفال مشاهدة أفلام الكرتون، ولعل الكبار يشجِّعون هؤلاء الأطفال على مُشاهدَة هذه الأفلام؛ كي يتخلَّصوا من مُشكلاتهم وأذيَّتهم في المنزل.
الجيل الجديد يمضي الساعات الطوال أمام أجهزة الكمبيوتر، ويجد ضالته في التواصُل مع غيره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فيجلس الشباب لأوقاتٍ غير محدودة أمام أجهزة التواصُل، ويستفيدون من تكنولوجيا التواصُل والمعلومات، وفي المقابل فإنَّ هذه الساعات تعني العزلة الاجتماعيَّة عن الأُسرة، وتعني الخمول الجسْمانِي، وتعني الضغط والتوتُّر النَّفسي، فضلاً عن التأثيرات السَّلبيَّة عليهم نتيجة الدخول إلى المواقع غير البريئة واللا أخلاقية.
نتيجة انشغال الزوج بالعمل خارج المنزل؛ فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن الهاتف المحمول، الذي يأخذ جُلَّ وقته حتى في منزله، ولا يستطيع أن يتحدَّث مع زوجته بعض الوقت.
إنَّ الناس بشكل عامٍّ يُعَانون مِن هدر أوقاتهم؛ ووُجود أوقات فراغٍ لدَيْهم، خاصة بعد التطور التكنولوجي، وحيث إنهم لا يُقَدِّرون قيمة الوقت، خاصَّة الأوقات التي تذهب هدرًا وضياعًا، والتي سيحاسبون عليها يوم القيامة، فلابد من توعية أفراد الأسرة؛ كبيرِهم وصغيرِهم، بقيمة الوقت، وصرفه في النافع والمفيد، ومنها التقليل من المكوث أمام أجهزة التكنولوجيا.
توجد دوراتٌ تدريبية في مجال التواصُل الاجتماعي والترابُط الأسَري ينبغي الالتحاق بها، خاصة لمن يُعاني مِن العُزلة والانطواء بسبب أجهزة التكنولوجيا، ونهيب بأولياء الأمور أن يلتَحِقُوا بهذه الدورات؛ كي يتغلَّبوا على ضَعْف العَلاقات الاجتماعيَّة في الأُسرة.
تلعب وسائل الأعلام - الرسمية والأهْليَّة - دورًا في توعية الناس بأضرارِ وسلبيَّاتِ أدوات التكنولوجيا، فلا ينبغي التخَلِّي عن هذه التَّوعية بحجة الانفتاح الحضاري والثقافي، ونقل كل أنواع التفسُّخ والانحلال الخلقي مِن خلال أفلام السينما، ومسلسلات التلفاز، وشبكة الإنترنت.
خاصة المؤسَّسات التي تهتم بقضايا الطفولة والشباب والأسرة بشكل عامٍّ، فعليها أن تكثِّف جهودها في التنسيق والتعاوُن فيما بينها؛ مِن أجْلِ المحافَظة على ترابُط الأسرة وتَوْعية أبنائها؛ لأنَّ صلاح الأسرة وأفرادَها صلاحٌ للمجتمع والأمة.
إبرام اتِّفاقيات بين دول العالَم تكون مِن شأنِها تقوية القيَم الدِّينية والمجتمعيَّة؛ للحفاظ على ترابط وتماسك أفراد الأسرة بعضهم ببعض، إلى جانب اتفاق هذه الدول على منع الشركات الخاصة التي تروِّج قيمًا تَمَسُّ تماسك الأسرة وانحلالها، سواء بعدم إنشائها أو إغلاقها، وسيطرة هذه الدول على شبكات الإنترنت - خاصة التي تخاطب المراهقين والشباب - بحيث تطرح برامج تعليمية، بدلاً من برامج تدعو إلى التفسخ والانحلال الخلقي والإجرام.
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.