كثيرة هي العبر التي رسختها الثورة الحسينية، فهي كالنهر الجاري لن ينضب أبدا، وإن جف حبر الأقلام فلن تنقطع تلك المآثر التي سطرتها دماء طاهرة خلدت تاريخا خالدا، وملحمة كبرى ألهمت الأجيال عناوين الوفاء والإيثار، وثورة تتجدد كلما وقع ظلم على الأمة، فتنتفض بوجه الطغيان.
يحاول البعض أن يصور ثورة الامام الحسين عليه السلام بأشكال شتى، فمرة يصورها صراع على الملك رغم أن الأمام الحسين أحق بها، ومرة يدعي إنها ثورة ضد الحاكم الذي لا يجوز الخروج عليه ! ويريد من إبن بنت رسول الله أن يبايع الظالمين والفاسدين، ويخضع لحكم الجور والظلم والجهل والطغيان، بعيدا عن أهداف الرسالة الإسلامية التي جاء بها جده محمدأ صلى الله عليه وآله.
من جانب آخر؛ يتعامل قراء المراثي والمآتم مع القضية الحسينية على إنها عَبرة، تثير الحزن والبكاء والجزع، لهول تلك المصيبة التي حلت بآل بيت النبوة، ويبتعدون عن الهدف الأسمى والأهم الذي قاتل من أجله الحسين وعياله تلك الجيوش، والرسالة الخالدة التي ضحى بدمه من أجلها، بعد أن قدم عياله وأنصاره واحدا تلو الآخر الى سيوف الأعداء ورماحهم، وما هي القضية الكبرى التي تستوجب تلك التضحية وتقديم تلك الدماء.. لكن العاطفة الصادقة وإستثارتها جنبة لها أهميتها في تلك الثورة.
إن أحد أبرز أهداف نهضة الأمام الحسين عليه السلام، التي قام بها ضد حكومة فاسدة وظالمة وقمعيه وهي حكومة يزيد، هو إقامة دولة عادلة تقيم الحق والعدل والإصلاح بين الناس، وهذا واضح من الشعار الذي رفعه الامام الحسين قبل خروجه حين قال : " أني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي " كما إنه لم يخاطب قاتليه بأنهم لم يصوموا أو يحجوا، بل قال لهم أن بطونهم ملئت حراما، فمن هنا بدأ الفساد والظلم والإضطهاد وهو أساس كل فساد لاحق.
بعد أن قدم الحسين عليه السلام القيادة الصالحة متمثلة بشخصه، كونه ينتمي الى بيت النبوة وشقيق الإمام الحسن عليه السلام، الذي تصالح مع معاوية شرط أن تكون الخلافة من بعده لأخيه الحسين، ورفع الشعار الذي يريد تحقيقه والأهداف السامية التي يريدها من ثورته، حرص أيضا على تقديم رجال هذه الدولة الصالحين دون النظر الى شكلهم أو عرقهم، فكان فيهم الشيخ والشاب وذو البشرة السمراء، ومنهم من أصوله غير عربية، لكن المعيار هو الإيمان بالقضية والمشروع الذي خرج من أجله الحسين، فكان الشيخ الكبير حبيب بن مظاهر، والفتى علي الأكبر وجون الأسمر، وأسلم التركي والحر بن يزيد الرياحي.
ولأن المرأة شريكة الرجل، والنصف الاخر من المجتمع ولها دور في بناءه كما للرجل، فقد كان لها دور في معركة الطف ومشاركة فاعلة للثورة الحسينية، وكما كان الإمام العباس قائدا لمعسكر الحسين وحاملا للواء المعركة، تصدت السيدة زينب بنت علي لإدارة الدعم ورعاية النساء والأطفال وعوائل المقاتلين، وكانت صوتا هادرا ضد الظالمين وإعلاما ناطقا ضد محاولات الأمويين طمس ما حدث في واقعة كربلاء، شارتكها نساء قدمن أروع البطولات وسطرن تضحيات كتبت بأحرف من نور، فكانت هناك زوجة الحسين الرباب بنت إمرئ القيس، ورملة أم القاسم بن الحسن بن علي، وأم وهب التي أصرت على القتال مع زوجها في المعركة، وأم عمرو التي دفعت ولدها للقتال بعد إستشهاد زوجها.
في واقعة كربلاء تجسدت معالم الدولة العادلة، التي كان يهدف لإقامتها الأمام الحسين عليه السلام إضافة الى الأهداف الأخرى، فقد كان هدف الثورة الحسينية هو إقامة دولة الحق والعدل، ومحاربة الظلم والفسوق والفساد، والقيادة الصالحة التي حملت تلك ألأهداف متمثلة بالإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس، والأدوات الصالحة لقيام هذه الدولة، هم أصحاب الإمام الحسين الذين كانوا على قدر كبير من الفقه والمعرفة والإيمان بالقيادة والمشروع، على تنوعهم الإجتماعي وإختلاف أعمارهم، فقد كانوا من خيرة مجتماعاتهم، التي إتخذت موقف المتفرج.
كانت ملامح الدولة التي يريدها الحسين واضحة المعالم، وبرنامجها الذي كان يهدف له تجسد في قوله: " مثلي لا يبايع مثله " وأعطى النموذج الأصيل لكل معالم الدولة من برامج وأهداف وقيادات، ضد حكومة فاسدة في قيادتها وأفعالها وإن كانت تحاول أن تغطيها بعناوين مقدسة وشعارات كاذبة بعيدة عن الدين ومنهج الإصلاح والإدارة الصالحة، ولطالما حاولت الاقلام الزائفة أن تصور الحسين عليه السلام متمردا على القانون، محاولا إضعاف الإسلام وشوكة المسلمين، في الوقت الذي كان هو الأحق بقيادتها، على النهج المحمدي الأصيل.
لقد كان الحسين عليه السلام ثائرا ضد اللادولة، معترضا على الفساد والتزييف والتلاعب بمقدرات الأمة، قدم دمائه وعياله وأصحابه فداء للأهداف السامية الرامية الى الاصلاح ومحاربة الإنحراف، والاستئثار بحكم الامة والتسلط على رقابها تحت سياط الظلم والجور والحرمان، فدولة العدل تستحق التضحية والأهداف الصالحة لا تنازل عنها، وإن كثر أتباع الباطل وعلا صوت أبواقهم، وإشتروا الأقلام المأجورة لتلميع صورهم.
ثامر الحجامي