لا شك أن مجرد انضباط الناس كمواطنين وكمسئولين، يكفي لاستقامة الحياة، لأن قيام الناس بواجباتهم الاجتماعية والسياسية، هو عين الانضباط الذي يضمن حسن سير المجتمع والمؤسسات؛ بل إن جوهر المسألة في كل اضطراب سياسي أو اجتماعي أو ثقافي في حقيقته يخفي وراءه إهمالا لواجب أو تقصير فيه في جهة من الجهات، سواء هذه الجهة رسمية كانت أو شعبية، مع فارق التأثير والمسؤولية في الواقع بطبيعة الحال، حيث أن تقصير السلطة ليس كتأثير فرد أو فئة من أفراد الشعب وفئاته، أما من حيث المبدأ فالتأثير واحد، ولكن أحدهما عاجل والآخر قد يكون آجلا، أو أن لأحدهما تأثير كلي وللآخر تأثير جزئي، أو أن تأثير أحدهما ضرره متعدي، وتأثير الآخر ضرره قاصر ومحدود.
ولكن طبيعة الإنسان المتقلبة، التي ليست في درجة واحدة، علما ومكانة وحالا، كما هي ليست على قدْر ومستوى واحد في الإرادة والقدرة والاستقلالية والإقدام والإحجام، لا تسمح للمجتمعات بأن تكون في مستوى من التوازن بالطبيعة والجبلة؛ لأن الطبيعة البشرية متلفتة لتلك الأسباب والمبررات لا تنضبط إلا بجملة من الروادع العلمية والأخلاقية والعرفية والسلطوية الناظمة، وفي ذلك مستويات أيضا.
ولذلك كان المتفلتون من هذه القاعدة قليلون في التاريخ، وهم الذين نسميهم النخبة، وهم المؤهلون للنضال وتأطير المجتمعات في قوالب نضالية متنوعة من أجل إصلاح مفاسد المجتمعات التي يتسبب فيها الأفراد من الشعوب وسلطاتهم، فكانت الأحزاب السياسية، والجمعيات والنقابات ومجموعات الضغط، وجها من الوجوه المؤطرة للشعوب حتى تقوم بما يجب عليها في سبيل العلاج المطلوب.
وبحكم أن ميولات المناضلين ليست واحدة، كان من الضروري أن يختار المناضل ما يناسبه من مجالات النضال، وإذا لم يهتد المناضل إلى المجال الذي يحسنه في الغالب لا ينجح؛ بل يخسر الكثير من الوقت والجهد والمال، والمناضل في عالمنا العربي والإسلامي، لا يراعي هذا الجانب بسبب غلبة التفاني والإخلاص في خدمة المجتمع، فيعتقد أن النجاح في النضال لا يتطلب أكثر من الإخلاص والتفاني في الموضوع، مغفلا أن مجرد الإخلاص لا يكفي إن لم يكن متوجا بإدراك كامل للموضوع وأسباب النجاح فيه أو الفشل.
ولذلك كان على المناضل ليحقق ما يريد تحقيقه، الانطلاق في نضاله من المجال الذي يحسنه ويصلح له، مراعاة للفوارق الطبيعية بين مجالات النضال المختلفة، وتنوع طبائع الناس وقدراتهم وإراداتهم.
ذلك أن مجالات النضال متنوعة، ومختلفة في طبيعتها ومهامها، فالعمل الخيري ليس كالنشاط الثقافي، وهو بدوره يختلف عن النشاط السياسي فليس كل من أحسن النشاط في مجال من هذه المجالات يحسن النشاط في كلها، فكل مجال له خصائصه، وكل مناضل يصلح لمجال ليس بالضرورة صالح في غيره.
وباستقراء ساحات الشأن العام، التي تخدم المجتمعات وأوضاعها كلها، نجدها لا تخرج عن ستة مجالات رئيسية وهي:
المجال السياسي، المجال الخيري، المجال الثقافي، المجال الحقوقي، المجال النقابي، مجموعات الضغط.
والممارسة العملية والنشاط في كل مجال من هذه المجالات، يتطلب مواصفات معينة فيمن يريد ولوجه والنشاط فيه.
فالمجال السياسي مثلا يقتضي النضال من أجل الوصول إلى السلطة، ومعارضة السلطة القائمة أو دعمها وفق برامج وتحالفات، أو تجاهلها والتركيز على النشاط مع الشركاء السياسيين إلخ، وهذا يقتضي تضحية ونشاطا متميزا من المناضل؛ لأن النشاط السياسي ينبغي أن يكون طُمُوحا، لا أن يكون زهدا في مواقع المسؤولية؛ لأن المفترض في المناضل السياسي أنه يمتلك مشروعا، والمشروع في العادة يحرص صاحبه على أن يقوم هو على تطبيقه وليس غيره، وهذا هو الطبيعي، ولكن في عالمنا المقلوب، يعتبر سعي المناضل السياسي في الوصول إلى السلطة معرة قد يفقد بها الكثير من فضائله الأخلاقية، بسبب اعتقاد الناس في أن السعي إلى السلطة عيب أخلاقي.
فالمناضل السياسي ليس من يعلن عن مشاركته في الانتخابات ، وليس من يملك اعتماد حزب ، وإنما المناضل هو من يملك مشروعا إصلاحيا جزئيا أو كليا، ويمتلك رؤية وخطة عملية في تطبيق ذلك المشروع، سواء بمساعيه وجهوجه الخاصة أو بالتحالفات مع من يشاركه الهم السياسي والاجتماعي.
وعندما يمتلك هذا المشروع، لا يهم أن يكون معارضا للسلطة القائمة أو موال لها أو متجاهلا لها لأن ذلك يكون وفق الرؤية أو الخطة التي اعتمدها المناضل في تحقيق برنامجه.
ومن ثم فالمناضل السياسي ليس كالمناضل في الجوانب الأخرى الاجتماعية والثقافية، الذي لا يعنيه الوصول إلى السطة بقدر ما يعنيه أن يشبع الفقير وتنتشر القيم الحضارية بين الناس فتصبح سلوكيات ناظمة لحركة المجتمع.
وهذا لا يعني أن المناضل في المجالات الاجتماعية والثقافية ليس له طموح، وإنما الطموح في حياة السياسي جزء من النضال؛ لأن السياسة مغالبة ومدافعة، أما النضال في العمل الاجتماعي والثقافي فهو مع الجمهور وليس من أجل الاستحواذ على المؤسسات، والطموح هنا طبيعة بشرية وليس أصلا في العملية.
أما النضال النقابي الحقوقي فمهمته مضبوطة في العمل المطلبي والحرص على تطبيق القانون والاستجابة لأهل الحقوق المهضومة، ولا يعنيهم الوصول إلى المناصب إلا بمقدار، ولا يعنيهم غنى الناس وفقرهم، فليس ضروريا أن تبرز في حياة النقابي أو الحقوقي فكرة الطموح كما هي ضرورة في حياة المناضل السياسي.
لا شك أن الانضباط في حياة المناضل في هذا المجال أو ذاك رأسمال هام؛ بل هو رأس المال الأساس والحقيقي، وملازمته للنشاط ضمان من ضمانات النجاح وتحقيق المشاريع، ولكن الطبيعة التي خلق عليها البشر تفرض صيغا لا يمكن وصفها بأقل من “التفلت”، والتفلت في الواقع من أسوأ ما تصاب به الأنشطة؛ لأن التفلت يعني التسيب والتحلل من الالتزامات والضوابط الأخلاقية والتنظيمية والقانونية، بحيث يمكن أن يتحول المناضل من رجل نشط مقدام متفاني منضبط إلى مخادع فاشل متفاني في تبرير أخطائه ومعاصيه الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.
فالطموح الذي ذكرناه كشرط أساسي في النضال السياسي، قد يحُوِّل صاحبه إلى ديناصور لا يكبر في عينه أحد من الناس، إن لم يجد في المؤسسة التي ينتمي إليها الإطار الأخلاقي الضابط للعملية التي يخوضها، مثل العمل الجماعي، التشاور المستمر، حسن الاستماع إلى المخالف أكثر من الموافق؛ لأن مداخل التفلت ليس من جانب التفاني أو الطموح في ذاته، وإنما يتمدد في الفراغات الأخلاقية التي يغفل عن الاهتمام بها الناضلون في العادة ، ولذلك وضعت التنظيمات فكرة التقييم، والنقد الذاتي، والمحاسبة، والمراجعة، حتى لا يتحول الطموح إلى تسيب.
وما يقال في النشاط السياسي –وهو الخطر والأشد إيلاما- يقال أيضا في العمل الخيري، باعتباره من مجالات إدارة الأموال، ومظاهر المن على الناس، فالناشط فيه قد يتحول هو الآخر إلى مشكلة؛ لأنه بطول الممارسة يتحول إلى “كائن مخطإ في نفسه”؛ لأنه الشخصية التي لها علاقات واسعة، ويثق فيه الناس، ويقصدونه في سد حاجاتهم، ويزداد انتعاشا عندما يشعر بأنه حقق ما عجزت عن فعله السلطة بمؤسساتها، وكلما حقق فاعل الخير نجاحا لا حظ له فيه إلا حسن التسيير، يشعر بانتفاخ في الأنا وعلى مر الأيام يصبح مرشحا للإفساد؛ لأن كل شيء بلغ ذروته مرشح للتوقف والانحدار، ولعاصم من ذلك حماية الفعل الخيري بتنشيط العمل الجماعي بحيث يذوب الفضل في إطار الجميع، فمن ناحية يشعر الجميع بوجودهم في المشروع، ومن ناحية أخرى تذوب أنانيات المسئولين في الخير ولأبقى للمناضلين والنضال.
وما قلناه في النشاط السياسي والخيري ينطبق على كل نشاط جماعي، وليس النشاط النضالي فحسب ، فالتفلت الذي يقع فيه المسئول في المؤسسات الرسمية، وزير أو رئيس حكومة أو رئيس دولة أو مدير مركزي، بحيث يرى نفسه فوق السؤال والحساب؛ لأنه قدم تضحيات!! لا يختلف كثيرا عن مسئول في جمعية أو حزب أو نقابة، حيث يرى نفس الرأي لنفس الأسباب، وذلك خلل ووجه من وجوه التفلت لا يقره منطق الانضباط
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.