هل هناك أية إمكانية لانتصار الليبرالية بشكل خاص والديمقراطية على العموم في العراق كتيار سياسي واجتماعي؟
بعد الانتخابات الاخيرة التي أُجريت في ١٠ تشرين الأول من هذا العام، وما زالت نتائجها محل جدل ولم تصادق عليها المحكمة الاتحادية، أي بعد ما يقارب شهر ونصف، سلط الضوء الإعلامي بشكل مخطط ومدروس على إحراز صف من “المستقلين” على عدد من المقاعد البرلمانية. وأكثر من ذلك، ازدادت الحملة الاعلامية للترويج لهم بعد تشكيل قسم منهم تحالف او ائتلاف سمي ب(الكتلة الشعبية)، وتصويرها على انهاء إحياء للتيار الليبرالي في العراق وكان رموزه حينذاك محمد حديد وكامل الجادرجي وجعفر ابو التمن، وان فجر شمس الحرية والديمقراطية الحقيقية ستشرق على العراق بعد عصر جليدي دام ما يقارب عقدين من الزمن.
وكما تحدثنا من قبل وفي مناسبات أخرى، إن إعادة الدماء إلى العملية السياسية من اولويات حكومة الكاظمي والقوى الدولية والعالمية المساندة لها، كما أن إعادة ثقة جماهير العراق بها وخاصة بعد مقاطعة اكثر من ٨٢٪ منها للانتخابات الأخيرة و للمرة الثانية، أحدى المسائل المحورية وفي صلب السياسات العملية والاستراتيجية لتلك القوى. ولهذا اصدر مجلس الامن بيانا أشاد بالانتخابات ونتائجها، إلى جانب بيان آخر أدان عملية اغتيال الكاظمي، التي كانت من الممكن في حال نجاحها نشر الفوضى ونسف العملية السياسية.
وعلى الرغم من محاولات في تعويم ما يسمى (التيار الليبرالي) بعد الغزو والاحتلال، على صف من السياسيين أمثال عدنان الباجي ومهدي الحافظ و جلال الماشطة، وقد سلموا هؤلاء أسلحتهم مبكرا وانضموا الى صفوف نادي المحاربين القدماء، إلا أن الصراع على السلطة بين التيار الذي يريد تأسيس دولة تتجه نحو الشرق وتبتعد عن المحيط العربي وآخر يريد تأسيس دولة توجه شراعها نحو الغرب والمحيط العربي قد يبدد اماني حكومة الكاظمي وداعميها الإقليميين والدوليين في اعادة الوهج والبريق للعملية السياسية عبر الترويج لما سموه بالمستقلين والتيار الليبرالي.
وخلال الأيام الأولى بعد الانتخابات نشطت دعايات الأطراف المؤيدة للانتخابات بتوجيه اللوم والنقد والتقريع إلى الجماهير المليونية التي قاطعت الانتخابات، وأنها لو لم تقاطع الانتخابات لحصل المستقلون على اضعاف المقاعد التي حصلت عليها، وبهذا ستنتهي المحاصصة السياسية و سيقصى الإسلام السياسي خارج الحلبة، وسيعم الأمن والأمان ويقضى على الفساد. الا ان السذاجة السياسية التي تمنع دائما لفيف من المثقفين الذين يسمون أنفسهم بالليبراليين من رؤية أبعد من وقع أقدامهم، صدمت بأن العملية السياسية لا يمكن لها أن تجدد نفسها بالرغم من إحراز المستقلين ٤٠ مقعدا فيها (هذا إذا افترضنا انهم سيظلون مستقلين للنهاية وقاوموا عدم الغرق في مستنقع العملية السياسية وبيع ذمتهم ) ولا يمكن للعملية السياسية أن تولد أكثر من فأرا. وأن أساس المعضلة السياسية في العراق هي نفس العملية السياسية، ودون انهاء عمرها، فلا يمكن انتظار الخير منها، وقد أثبتت كل هذه السنوات صحة ما ذهبنا اليها.
وإذا وضعنا جانبا صراع الفائزين والخاسرين والذي سيكون في النهاية عقد هدنة بينهما وإعادة تقاسم المناصب وتشكيل حكومة على أساسها، فإن الخداع والتضليل الذي يمارسها مناصرو العملية السياسية عبر التطبيل والتزمير للمستقلين ليس الهدف منه إلا إعاقة حماسة الجماهير التي قالت لا للعملية السياسية..ولا للانتخابات، وهم مرعوبون من اشتعال شرارة انتفاضتها من جديد كما اشتعلت انتفاضة البصرة والمدن الجنوبية بعد انتخابات عام ٢٠١٨.
إن الغزو والاحتلال كسر طوق العزلة على العراق بعد حصار دام ثلاثة عشر عام وأصبح جزء من النظام الرأسمالي العالمي، وفي نفس الوقت تابعا على الصعيد الاقتصادي للدول الامبريالية، وحدد له موقع في تقسيم الإنتاج الرأسمالي العالمي وهو إنتاج النفط. واذا ما اخذنا على سبيل المثال لا الحصر ظروف وشروط عمل العمال في القطاع النفطي الذي سلم حقول عديدة منها الى الشركات الاجنبية مثل اكسيون موبايل وشيفرون الامريكية وتوتال الفرنسية وبتروجاينة الصينية واينو الايطالية و غازبروم الروسية وبترش بتروليوم البريطانية، فإن أوضاعهم لا يحسد عليها من حيث توزيع الأرباح وتفشي الأمراض السرطانية دون تغطية صحية كافية وطول ساعات العمل وسوء الطعام أو قلة دفع بدلاته و مشكلة النقل، وهي أي ظروف العمل الأقسى عندما كانوا تحت اشراف شركة نفط الجنوب ونفط البصرة، وان الحكومة العراقية تطبق قوانينها التي صدرت في عهد نظام صدام حسين على العمال وهي منع أي شكل من أشكال التنظيم والاحتجاج . بمعنى اخر ان الحكومة العراقية تقدم كل التسهيلات القانونية لفرض اشكال من العبودية على العمال من أجل در الأرباح لصالح تلك الشركات الاجنبية، هذا ناهيك عن وجود شركات السمنت الفرنسية لافارج والشركات الايرانية والتركية في مجال التعليب والبناء والدواجن التي هي الأخرى تجد في سوق العمالة العراقية أرباحا كبيرة بسبب شروط عمل العمال القاسية.
ما نراه اليوم في العراق من وجود الحريات النسبية على صعيد الفكر والرأي والإعلام والتظاهر ليس هو نتاج تصدير الغزو والاحتلال لمفهوم الديمقراطية وتأسيس نظام برلماني نصفه قائم على المليشيات، إنما هو نتاج عدم قدرة التيارات السياسية القومية والاسلامية من حسم موضوعة السلطة فيما بينها. وإذا ما دققنا قليلا فإن حزمة القوانين التي مررت مثل حرية التعبير والحريات النقابية وعدد من مشاريع قوانين جديدة التي لم تمرر في البرلمان مثل الأمن الإلكتروني وغيرها تعبر عن خطة سياسة وبرنامج عمل على الصعيد الاستراتيجي لتنظيم القمع وفرضه على المجتمع من قبل الطبقة الحاكمة. وان شكل النظام السياسي وماهيته في العراق ليس فقط لا يتعارض مع مصالح القوى الامبريالية العالمية بل الاخيرة تسانده بكل ما أوتي لها من قوة. اي ليس لديها أية مشكلة مع نظام المحاصصة القومية والطائفية كما اسلفنا من قبل في مقال مفصل ( التعمية وإخفاء الصراع الطبقي في المشهد السياسي العراقي). وقد عبر هذا النظام وعبر العملية السياسية على أنها غير متسامحة ابدا مع اي شكل من أشكال الحريات. فمنذ انتفاضة شباط ٢٠١١ وبعد ذلك تظاهرات تموز ٢٠١٥ ثم احتجاجات المدن الجنوبية في ٢٠١٨ وما بينهما تظاهرات المنطقة الغربية في ٢٠١٣، واخيرا وليس اخرا قتل اكثر من ٨٠٠ شاب في عمر الزهور في انتفاضة أكتوبر عام ٢٠١٩، فلقد غض الطرف عن قتلتهم عبر مساومة حقيرة بين أطراف العملية السياسية، يكشف عن أن شمس الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي ليس أكثر من تسجيل حضور لساعات في شتاء قارص. ولم تبدِ الدول التي تمتلك شركات عاملة في العراق وهي الدول الامبريالية العالمية أكثر من قلقها على المتظاهرين والمطالبة بضبط النفس من قبل القوات الامنية، والادعاء الفارغ من المحتوى بانها تحترم حق التظاهر، باستثناء انتفاضة أكتوبر التي صدرت خلالها الدول الغربية بيان ادانة لقمع المتظاهرين ضمن لعبة توازن القوى التي كانت لغير صالحها عندما كانت حكومة عبد المهدي تمثل مصالح النفوذ الإيراني في العراق.
وان كل ما تريدها الامبريالية العالمية في تصدير الديمقراطية الى بلدان تابعة لها، هي حصرها بآلياتها الشكلية؛ وهو صندوق الانتخاب وحق الاقتراع او التصويت ليصب بالأخير بالتبادل السلمي للسلطة وليس أكثر من هذا. وفي حالات كثيرة ترفض أمريكا وحلفائها نتائج التصويت اذا وجدوا ان الفائز بتلك الانتخابات طرف مناهض لمصالحها السياسية والاقتصادية كما شاهدناه في العديد من البلدان.
أي إذا تجاوزنا مفهوم الديمقراطية والليبرالية ووسعنا من حدودها، وليس كما حاول الاحتلال تأطيرها وفشل في ترسيخها، و معطياتها المادية هي المقاطعة العظيمة للانتخابات وخلال ثلاث سنوات ولمرتين، نقول اذا تجاوزنا تلك المفاهيم الى الحريات السياسية وحرية التعبير والرأي والمعتقد والحقوق المدنية والمساواة، فإن حصة أرباح الشركات الأجنبية تنخفض، لأن القاعدة القانونية والسياسية والاجتماعية للمطالب العادلة ستتسع وتتحول مقولة الحرية والحق بالعيش الكريم والرفاه والعدالة والمساواة الى عقلية جمعية ووعي في المجتمع، وستتحول إلى حركات تنتزع حقوقها وتسجل انتصاراتها، وعلى الامبريالية العالمية تقديم تنازلات من أرباح شركاتها، وأنها بدورها ستقل ايضا من أرباح الطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق التي هيأت ظروف الاستثمار والاستغلال في العراق.
أن الليبرالية كنظام اقتصادي، بدء يرى النور في العراق، وليس الورقة البيضاء التي أسست للموازنة الا تتويجا رسميا لليبرالية الاقتصادية وإنهاء الجدل حولها بعد طول تردد من الحكومات السابقة في تبنيها. أما على الصعيد السياسي، فإن الليبرالية ليس أكثر من إضفاء الشرعية على العملية السياسية وترسيخ سلطة رأس المال وبغض النظر عمن يمتلكه، سوى جاء بالفساد والاستحواذ أو بالاستثمار واستغلال الطبقة العاملة. وان متطلبات الاستثمار في السوق العراقية بحاجة الى قمع سياسي والى القوانين التي ذكرتها لتأمين مصالح الشركات والدول والطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق. اما (التيار الليبرالي) وهو التسمية التي يحاول أن يطلق الحالمون الليبراليون الجدد على المستقلين أو (الكتلة الشعبية)، فدورهم لن يكن أكثر من محاولة فاشلة في مسح آثام العملية السياسية، في الوقت الذي تحتاج الى إنهاء عمرها.
سمير عادل