الانحطاط الأخــلاقــي فــي زمــن التكنولوجية

أحد, 12/05/2021 - 19:32

وجدت الأخلاق منذ القدم وليست حديثة الوجود، وتحسنها غير مرهون بتقدم الزمن بقدر ما أنه مرتبط بنضج الإنسان وزيادة وعيه وتشبثه بدينه، وبالخصوص الدين الإسلامي الحنيف الذي جاء برسول عظيم حمل معه رسالة إتمام مكارم الأخلاق التي تعد المرتكز المتين لمعاملات المرء السوية مع الآخرين، فبها تصير حمولته السلوكية متوافقة مع ما يتبناه من أفكار ومبادئ، وتعظم الحاجة إليها كلما تقدم الزمن وكثرت فتنه وانحرف التصرف الإنساني عن جادة الصواب، فالأخلاق بمثابة الضابط الداخلي الذي لا يكفي لوحده، والناس ليسوا كلهم أسوياء وواعون بما يفعلونه، لذا تعين أيضا استحضار القوانين سواء التي أتى بها الشرع أو التي وضعها البشر باعتبارها ضابطا خارجيا ملازما لتصرفات الفرد والمجتمع، ومما لا يدعوا للشك أن الأخلاق تنحط بتجاوز القانون الإلهي أو البشري وعدم إعطائه أي اعتبار لردعه وزجره لكل مخالف لما نص عليه.

لا يمكن لأحد أن ينكر دور الأخلاق في تكوين شخصية الإنسان السوية والرقي بالمجتمع إنسانيا، وإيمانا بأهمية هذا الدور سوف نتحدث عن الأخلاق في إطارها الزماني الحالي، وهذا ما يحتم علينا طرح مجموعة من الأسئلة التي تحتاج لنظرة فاحصة ممزوجة بالنقد، لكي تتم الإجابة عليها بشكل مدقق وفق نسق حيادي متجرد من الأهواء والميول الذاتية والأغراض الشخصية. ما هي طبيعة الأخلاق السائدة في مجتمع اليوم؟ وما حقيقتها؟ وهل هي ثابتة أم أنها تظل نسبية تتغير بتبدل بعض المتغيرات؟

 أن يكون هذا الزمن متطورا ماديا في التقنية والتكنولوجيا والصناعة لا يعني أنه كذلك في الأخلاق والقيم والانسانية، وهذا التباين الحاصل مؤشر واضح على وجود خلل في تركيبة الإنسان المعاصر، بل هو دليل قاطع على حالة الانحدار السريع نحو تلاشي القيم الأخلاقية وضمور الحس الإنساني، لأن أصل الصلاح البشري ليس بلوغ التطور المادي وإنما التوفر على فكر سليم وروح نقية وقيم نبيلة، وفي حال غياب ذلك أمام الاستفحال المادي الواقع في عصرنا فإن الانحدار الأخلاقي حتمي وسيكون مصير البشرية الذي لا مفر منه.

والأخلاق بصفة عامة هي أوصاف الإنسان التي يتصرف بها مع غيره، وقد تكون حقيقية أو مزيفة؛ فحين يتصنع المرء ضمنيا لا تعود تلك الأوصاف تمثل ما يحمله الشخص في داخله على حقيقته، كما أن الأخلاق ليست أقوالا فحسب بقدر ما هي تطبيق عملي يتجسد في تصرفات الفرد التي تحتمل الصدق والتصنع، والمواقف الحياتية وحدها من تمكننا من أن نتأكد بموجبها مدى صدق الأخلاق الظاهرة لنا، ولا يقدر المرء على الجمع بين فضيلة كونه أخلاقيا في الجانب الشفهي والفعلي معا إلا إذا كان إنسانا راقيا ما زال ضميره حيا يشتغل بشكل جيد.

وبدورنا نعتقد بأن الأخلاق بمثابة اختبار حقيقي للنبل والارتقاء الإنساني، وفي حالة السقوط وعدم القدرة على النجاح فيه لا يتهشم الفرد تهشما معنويا فقط بل وواقعيا أيضا، فالتبجح بالأخلاق كما هو الحال في هذا الزمان والادعاء بالطهرانية أمر مقرف جدا إذا كانت حقيقة المرء على نقيض ذلك، ويبقى الفعل دائما في مواقف الحياة أبلغ من القول، فحين يكتشف عدم صدق ما يتم ادعاؤه في الواقع المعيش، ينهار كل ما تم بناؤه سواء بالتمثيل أو التصنع أو النفاق، ولا يعود لذلك أي أثر إيجابي بل يصير ذلك سببا قويا للنفور ممن يتصرف بمثل تلك الأفعال، لا سيما التي تتعارض مع القيم الإنسانية النبيلة.

والناظر في أحوال الناس اليوم لا يرى أي تعاظم للمنظومة الأخلاقية في نفوس الآخرين أمام المغريات المادية والمصالح الشخصية والمنافع الذاتية، فالتبجح بخلق الأمانة على سبيل المثال ليس أبدا دليلا كافيا على حسن الائتمان في ظل غياب بوادر الصمود أمام شدة الحاجة لما تم الائتمان عليه.

 لهذا نعاين في هذا الزمن تراجع الناس معنويا وروحيا في كل شيء له ارتباط بالضمير والحس الإنساني، ربما يكون هذا الحكم قاسيا نوعا ما، وقد يبدوا لكم أنه يحمل شيئا من السلبية والسوداوية، لكننا في الحقيقة لا نستطيع أن نكون أكثر من هذا وإلا وقعنا في المحظور أخلاقيا ونحن نتحدث عن هذا الجانب الجوهري الحساس في الإنسان.

 

ولا يحتاج كلامنا لدليل أكبر من الواقع المعاش حاليا، لذا قررنا ألا نقيسه إلا بمقياس الأخلاق بالرغم من أننا في زمن المظاهر، ولو أن منطق الحياة المعاصرة يفرض علينا أن نحسب حساباتنا بمقاييس أخرى بعيدة عن الأخلاق، إلا أنه لا يمكننا أن ننفصل بشكل نهائي عنها، ولن نستطيع وإن أردنا ذلك بالقوة، فمهما ابتعدنا عنها في واقعنا إلا وأدركنا جيدا في عمق أنفسنا أن العودة إليها حاصلة ولو بعد حين، فلا يمكن بالمطلق تجاهلها وعدم وضعها في الحسبان حتى وإن اختارت غالبية البشرية الابتعاد عنها طواعية أو أجبرت على ذلك بالإكراه.

الأخلاق الحقيقية تطبع الإنسان بطابع قيمي فعال يبعد عنه الحيوانية التي تضغط عليه باستمرار بفعل غرائزيته وشهوانيته، فكلما كانت منظومته الأخلاقية متماسكة توافق بين واقعه الظاهر والباطن إلا وأصبح أكثر تحصينا بها أمام ما يواجهه في الواقع المعيش، وهنا تظهر مدى قدرته على تمثل أخلاقه، إذ ليس من المعقول أن تبقى الأخلاق في دائرة القول، بل لا بد من اختبارها بالممارسة الفعلية في عالم الماديات، ليتم إثبات جودتها وصمودها، فمن السهل على أي إنسان أن يدعي تمثله لمنظومة أخلاق قوية وينزه بذلك قيمه الأخلاقية تنزيها كاملا على المستوى التنظيري، لكن من الصعب جدا أن يكون ادعاؤه مطابقا لواقع تصرفاته الحقيقية.

 

أغلب الناس اليوم يعتبرون أنفسهم متفوقين أخلاقيا؛ فيقومون باستعراض الأخلاق والتباهي بها ولا يكفون عن الإعلان عن كونهم من الأخيار وغيرهم من يحمل السوء والشر، كما أن التبجح بالأخلاق شائع بكثرة في العالم الافتراضي باعتباره مساحة مفتوحة ونشطة تسهل لهم تلك العملية بشكل كبير؛ سواء عبر التعبير عن صفات أخلاقية مصطنعة أو من خلال اتهامهم للآخرين بقلة الأخلاق أو انعدامها.

إن انفصال الناس عن الأخلاق الإنسانية النبيلة له صور متعددة في هذا الزمن الذي شاع فيه الزيف في كل شيء، ويمكن جمع تلك الصور في الانجراف نحو الماديات والانغماس في حب المظاهر وتحقيق المنافع الشخصية بدون أي حس إنساني، بالرغم من أن الناس اليوم أصبحوا أكثر تفاخرا وتغنيا بالأخلاق التي يزعمون التوفر عليها ظاهريا، لكن في عمقهم وجوهرهم لا أثر لوجودها البتة، وهذا ما يدل على عدم اتساقهم مع ذواتهم، فما يهمهم هو إظهار الصورة التي يريدون أن يراها الآخرون عليهم على أنها واقعهم مع أن صورة أخلاقهم الحقيقية مشوهة ومعطوبة.

والإنسان في هذه الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكون ممن ينتصر للأخلاق مهما كثرت خسائره المادية أو ألا يعطي لها أي اهتمام؛ مما يعني قدرته على أن يدوس عليها لنيل أي متاع دنيوي مؤقت، ومحاولة المرء في إظهار قوة جانبه الأخلاقي هي محاولة فاشلة، لأن الأخلاق تبرز بشكل ضمني في السلوك والفعل لا في القول والادعاء، فهذا الخيار غير متاح في التصور الصائب للأخلاق التي من غير الممكن أن تتعارض مع التصرفات السوية للإنسان، لهذا فإما أن تتنازل عنها نظرا لكثرة المطامع الدنيوية والمنافع المادية والمظاهر الخداعة التي تجرك نحو الانسياق وراءها أو تتمسك بأخلاقك وتبتعد عن كل ما يمكنه أن يجردك منها.

على كل واحد منا أن يعود إلى نفسه، وأن يسألها عن حقيقة الأخلاق التي تحملها ومدى صدقها وثباتها؛ بعدم اقترانها بالمظاهر والجوانب المادية والمصلحية وغيرها من المتغيرات الزائلة، وأن يكون جريئا معها في تحديد طبيعة أخلاقه، ليصبح قادرا على أن يبين لها تبعات اختياراته الأخلاقية عليه وعلى من حوله، ابتداء من محيطيه الشخصي الضيق وانتهاء بمحيطه المجتمعي الأوسع. 

وقد نتفاجأ من كون الكثيرين منا لا يعرفون حقيقة أنفسهم، وربما يرجع ذلك بالأساس لعدم صدقهم مع ذواتهم وغياب مصداقيتهم معها، فالتمكن من هذه النقطة الحساسة بالذات هو المفتاح لكي يدرك الشخص حقيقة منظومته الأخلاقية، ويتعرف على أعطابها، ويحدد مكامن خللها لإصلاح عيوبها لتصبح متوافقة مع سلوكياته وتصرفاته الخفية والظاهرة. وينبغي أن يتذكر الإنسان دائما على أن الخسائر المادية قابلة للتعويض مهما كان حجمها، في حين أن الخسائر الأخلاقية لا يمكن تعويضا أبدا وإن كان أثرها على الأمد القريب ضعيفا

بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف