تنطوي العولمة على مفارقات آبيرة هي التي تشكل مصدر قوتها وديناميكيتها. فهي في الوقت الذي تفتح فيه آفاقا جديدة للجماعات، من خلال ما تقدمه من فرص النمو الاقتصادي والتجاري وإعادة توزيع عناصر القوة والثروة وميلاد اقتصاد جديد قائم على تراآم رأس المال المعرفي اللامادي، تطرح عليها تحديات آبيرة أيضا،ومما يزيد من حجم هذه التحديات خريطة توزيع القوة والقرار في حقل العلاقات الدولية التي تحرم البلدان والمجتمعات الصغيرة من أي قدرة على التأثير على صوغ برنامج العولمة الراهنة، وتضطرها إلى الاصطفاف خلف القوى الصناعية والمؤسسات المالية والتجارية العالمية الكبرى. وبالرغم من أن سيطرة الدول الصناعية الرئيسية على المنظمات الدولية، بما في ذلك منظمة التجارة العالمية، ناهيك عن الأمم المتحدة، لم تعد سيطرة مطلقة، وهي في سبيلها إلى التراجع، إلا أن ترهل الكتل الدولية التقليدية التي آانت تعبر عن مصالح الدول النامية آحرآة باندونغ وعدم الانحياز ومجموعة ٧٧ ،والوحدة العربية والوحدة الأفريقية وغيرها من التجمعات الإقليمية، بالاضافة إلى تشتت رأي البلدان الصغيرة وحاجتها الماسة إلى معونات الدول الأخرى، تمنع المجتمعات الفقيرة من بلورة استراتيجية عولمية بديلة عن الاستراتيجية الليبرالية الجديدة السائدة التي تستجيب لمصالح الدول الصناعية الرئيسية.
وغياب مثل هذه التكتلات العالمية الكبرى المجسدة لمصالح المجتمعات الفقيرة والقادرة على
بلورة أجندة عولمية بديلة هو الذي يفسر الطابع الهامشي والطرفي لحرآة العولمة البديلة الراهنة وافتقارها إلى برنامج مقنع وأجندة واضحة معا.
ومن هنا تتطابق العولمة المسيطرة عالميا اليوم مع استراتيجية إحياء الليبرالية الاقتصادية الكلاسيكية.
وتتخذ العولمة شكل وفاعليته في تحقيق الانسجام بين مصالح الجماعات والشعوب وهو ما يتجلى في تمحور المداولات والمفاوضات الدولية حول مسألة تحرير التجارة وبناء السوق العالمية، وتعميم سياسات التخصيص والاصلاحات الهيكلية التي تتوافق وجذب الاستثمارات وتنشيط حرآة التجارة الدولية، وبقدر ما يستدعي تطبيق برنامج العولمة الليبرالي إعادة بناء العلاقات الدولية.
من منطلق تسهيل حرية التجارة وجعل الحدود السياسية شفافة لها، وتقليص سيطرة الدولة على التوجهات الاقتصادية، يدفع في الوقت نفسه إلى إعادة هيكلة اقتصادية وسياسية واجتماعية داخل الحدود الوطنية نفسها، وهو ما يعني إعادة بناء المعادلة الوطنية الاجتماعية على أسس جديدة تضعف من وزن القوى الاجتماعية الشعبية والفقيرة ومن منطق إرضاء الحاجات الاجتماعية لصالح تأآيد أسبقية منطق التجارة الخارجية وجذب الاستثمارات والتشجيع على توطينها آما تهدد الديمقراطية بقدر ما تنتزع من الشعوب سيادتها لصالح سيادة المؤسسات والشرآات والتكتلات ما فوق الوطنية.
وهذا هو في الواقع مصدر الفوضى الذي زاد الحديث عنها في السنوات الأخيرة، والذي يرتبط بجوهر العولمة الليبرالية.
فإعادة بناء حقل العلاقات الدولية انطلاقا من الرد على حاجات توسع التجارة الدولية وتعظيم حرآة الاستثمار، بقدر ما يجعل من النمو الاقتصادي، أي في الواقع من تراآم رأس المال، معيار النجاح، يحرم المجتمعات من المعايير السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تحول دون أن يتحول الربح إلى هدف في ذاته، ويعمل على تفكيك العلاقات الاجتماعية والمدنية.
فهو يلغي المكتسبات الكبيرة الماضية التي لم تكن الدولة الوطنية إلا عنوانها، والتي آان هدفها إخضاع الرأسمالية الاقتصادية إلى ضوابط يحددها مفهوم الوطنية نفسه، بما يعنيه من الحفاظ على التضامن والانسجام المجتمعي الداخلي وتأآيد الحريات الفردية والجمعية وإقامة العدالة القانونية. والحال أن العولمة الليبرالية تنشيء مجتمعا رأسماليا على مستوى العالم لكن من دون دولة "وطنية" أي من دون روح التضامن والآليات السياسية التي تضبط نشاط هذا المجتمع وتشذب تجاوزاته وتفرض عليه معايير إنسانية، آما آانت تفعل الدولة الوطنية في عصر الرأسمالية الكلاسيكية.
فلا ينبع التحدي الكبير الذي تثيره العولمة الليبرالية من إضعاف الدولة الوطنية نفسها، ولكن من غياب الأجندة الاجتماعية التي آانت تمثلها والتي جعلت منها حجر الأساس في تنظيم المجتمعات والنظام الدولي معا في الحقبة الطويلة السابقة، آما سمحت للرأسمالية أن تتحول إلى نظام اجتماعي قابل للحياة.
فقد استمدت الدولة الوطنية المكانة المرآزية التي آانت تحتلها في النظام الاجتماعي العام، وربحت شرعيتها في وجه التنظيمات ما قبل الوطنية، من تنفيذها أجندة وطنية ساهمت بالفعل في تحقيق الانسجام النسبي بين الأفراد، بقدر ما نجحت البرامج التي ارتبطت بها في تأآيد فرضية التماهي بين الجماعة والدولة الذي قام عليه جوهر الوطنية والمجتمع الوطني. ومن هذه البرامج وأعظمها البرنامج السياسي الديمقراطي الذي جعل من الشعب أصل السيادة والسلطة، وحول الدولة إلى مرآز تمثيل الشعب والاستجابة لإرادته.
وهو ما سيعبر عنه مشروع الديمقراطية وثاني هذه البرامج البرنامج الاقتصادي القائم على بناء السوق الوطنية الخاصة بما تعنيه من تأهيل القوى البشرية وتوفير فرص العمل واستغلال الموارد الطبيعية لصالح المجتمع الوطني الجديد، ومنها البرنامج الاجتماعي الذي ساهم في تذليل التناقضات وحل التوترات بين الطبقات والفئات، سواء ما تعلق منها بمسائل العدالة في توزيع الدخل أو بمسائل الخدمات الاجتماعية والتأمين على البطالة والمرض إلخ. ومنها أخيرا البرنامج الثقافي الذي رآز على بناء هوية المجتمع المتميزة، عبر العناية باللغة والثقافة والآداب والرياضة وغيرها من النشاطات التي تساعد على بلورة شخصية الشعب المتميزة وتعمق الشعور العام بالانتماء الواحد والانخراط في مصير مشترك، ومجموع هذه البرامج يكون أساس ما يسمى بالعقد الوطني الضمني الذي أعطى للاجتماع المدني السياسي مشروعيته آما أعطى لمفهوم الاستقلال والسيادة الوطنيين معناهما فهو أساس وجود المجتمع الوطني ومبرر وجوده آوحدة ومتحد... يتبع
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية