والحال أن العولمة بمعناها السائد، أو بالأحرى ضرورات الانخراط الفعال فيها، يفترض التخلي التدريجي عن هذا العقد، سواء بسبب حاجات التكيف مع السياسات العالمية المفروضة في إطار مبدأ المنافسة الحرة والشفافية ومنع تدخل الدولة في الشؤون العامة أو تقليص دورها إلى حد كبير فيها، أو بسبب افتقار الدولة للموارد التي تؤهلها للعب مثل هذا الدور.
ومن هنا، وفي موازاة تقلص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتعليمي تدخل المجتمعات تحت التأثير المباشر لمنطق العولمة الخارجي ولقدرة الفئات الاجتماعية المختلفة على التعامل معه.
ومن الطبيعي أن تكون الفئات الأقوى والأكثر تمتعا بالمزايا هي نفسها التي تستفيد من هذه العولمة، بينما يدين الانفتاح الواسع جميع الفئات الأخرى التي كانت تعيش على برامج الدولة الوطنية، وبفضل تدخلاتها الايجابية لضمان الحد الأدنى من المساواة والعدالة الاجتماعية .
ومن هنا تثير العولمة بالضرورة ردود أفعال قوية من قبل القوى الاجتماعية التي تشعر بضررها الكامن على مصالحها الخاصة.
ليس ذلك في البلاد النامية والفقيرة فحسب ولكن في البلدان الصناعية الكبرى أيضا.
ومن هذه القوى فئات واسعة من العمال والطبقات الشعبية التي تشعر بأن المنافسة العالمية المفتوحة تهدد بنقل فرص العمل نحو البلدان التي تنخفض فيها آلف الإنتاج.
ومنها أيضا فئات واسعة من الطبقات الوسطى التي تخاف من خسارة مستويات معيشتها الراهنة وأهم ما فيها الضمانات الاجتماعية والمشاركة السياسية.
فكما تؤدي المنافسة المفتوحة بنقل الاستثمارات إلى الدول صاحبة التكلفة لأخفض للإنتاج، وتهدد بالتالي بالقضاء على فرص العمل وتزايد احتمال تنامي البطالة في الدول الصناعية، تتعرض الديمقراطية التي يقوم عليها البنيان الوطني التضامني إلى التراجع نتيجة الالتزامات الجديدة التي تأخذها الدولة على نفسها، وإن كان ذلك باسم المجتمع، تجاه الدول والمنظمات العالمية الأخرى.
ويعتقد الكثير من المعادين للعولمة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أن توقيع واشنطن على اتفاقيات التجارة الحرة يقلص من قدرة الدولة الأمريكية، والأمة التي تقف وراءها، على المبادرة الاقتصادية.
فسياساتها في هذا المجال تصبح محكومة بالاتفاقات الدولية لا بإرادة الشعب الأمريكي.
وبالمثل تدفع المنافسة الاقتصادية المتزايدة التي تقود إليها السوق العالمية المفتوحة إلى زيادة الضغط على الطبقات المنتجة وتهدد، آما بينت ذلك الكثير من الإحصائيات، بتراجع معدل نمو الأجور بالنسبة لنمو الأرباح، حتى في البلدان الصناعية المتقدمة. فليس أمام الرأسماليين وأصحاب المشاريع التجارية والصناعية وسيلة أخرى لمواجهة المنافسة المتفاقمة إلا بتخفيض تكاليف العمل بأشكالها المختلفة. وتعيش بلدان أوروبة الصناعية الكبرى، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، هوس الخوف على انهيار نظام الضمانات الاجتماعية القوي الذي تبلور في العقود الماضية بما يتضمنه من تأمينات البطالة والتقاعد والتأمينات الصحية. وهو ما يهدد البرنامج الاجتماعي التاريخي الذي سمح للدولة الوطنية بالاستقرار والاستمرار وتحقيق النمو المضطرد والازدهار في العقود الطويلة الماضية .
ويقود التركيز على السوق العالمية مقابل السوق الوطنية إلى نشوء اتجاهين يهددان بالقدر ذاته البرنامج الاقتصادي الذي أعطى للدولة الوطنية قوتها ورصيدها السياسي في الحقبة الماضية.
فمن جهة تؤدي المنافسة المحمومة إلى ارتحال الصناعات إلى البلدان التي تقل فيها تكاليف العمل والإنتاج.
مما يحكم على الدول الصناعية بخسارة مستمرة لفرص عمل عديدة لصالح البلدان الأخرى ويساهم في ارتفاع معدلات البطالة وتحويلها إلى بطالة دائمة.
ومن جهة ثانية يقود انهيار اقتصاد البلدان الفقيرة التي لا تنجح في مواجهة استحقاقات العولمة بصورة ايجابية إلى تفاقم ظاهرة عالمية جديدة هي هجرة اليد العاملة إلى البلدان الصناعية واستيطانها هناك مع ما ينجم عن ذلك من تزايد مخاطر إعادة تكوين مجتمعات الضواحي الهامشية المستعدة دائما للانفجار في البلدان الصناعية مع التناهي بين حدود التمييز الاجتماعي والفقر وحدود التمييز الإتني، إلى جانب ما تشكله هذه الشرائح المهاجرة من ضغط إضافي على اليد العاملة المحلية
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.