وفي ما وراء هذه التحديات التي تهدد مجموع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي شكل إنجازها مصدر مشروعية الدولة الوطنية حتى الآن، تخلق العولمة على المستوى الاستراتيجي وضعية جديدة تقضي بتحويل العالم على بأكمله إلى حقل جيوستراتيجي واحد، وبالتالي بتعويم جميع القوى الدولية الفاعلة فيه وإعادة تقييم وزنها الاستراتيجي من منطق قدرتها على الاحتفاظ بموقع أو دور في القرار الإقليمي والعالمي.
وهي الوضعية التي تفقد فيها الدول الصغيرة وزنها وتحرمها من القدرة على ممارسة أي تأثير في الحياة الدولية. وآكل طفرة تقنية تولد الثورة المعلوماتية موارد جديدة يتوقف على السيطرة عليها والتحكم بها مستقبل العلاقات الدولية.
ولذلك فهي تطلق أيضا صراعات خاصة بها مرتبطة بإعادة توزيع علاقات القوة داخل النظم الثلاث المتداخلة والمتفاعلة: النظام العالمي والنظم الإقليمية والنظم الوطنية.
ويقدم مفهوم الحرب الحضارية الذي زاد استخدامه في السنوات الماضية مثالا عن المفاهيم الجديدة التي نشأت في ميدان العلاقات الدولية للتعبير عن نوع من التوترات والمنازعات والمواجهات العديدة التي تنطوي عليها الطفرة التقنية يمكن القول، من منظور مجرد تماما، أن العولمة تدفع إلى رفع وصاية الدول عن المجتمعات، بما تتضمنه هذه الوصايا من سلبيات (تقييد حرآة الفئات الاجتماعية) ومن ايجابيات (إلزامها بعقد وقواعد تضمن وحدة المجتمع) وتترك المجتمعات تتنافس في ما بينها حسب مواردها وقدراتها ومهاراتها وذكائها أيضا.
فالأثر كفاءة من الشركات والمؤسسات والمجتمعات هي التي تربح من المنافسة الحرة والممتدة على اتساع الدائرة العالمية. وفي هذا الإطار من المؤكد أن الرابح الرئيسي هو الشركات والمؤسسات والهيئات التي تتمتع بقدرات وموارد أكبر، أي المراكز الصناعية ومن وراء ذلك المجتمعات التي تعيش فيها وتعمل في مؤسساتها لكن مثل هذا النموذج المجرد للعولمة لا يوجد أبدا.
فليس هناك مجتمع يعيش خارج سيطرة نخبة أو طبقة اجتماعية.
ولعبة العولمة الرئيسية، أي جوهر الصراع القائم فيها، هو سعي آل نخبة اجتماعية مسيطرة إلى الاستفادة أآثر ما يمكن من فوائد الانفتاح والشفافية والتقليص إلى أدنى حد من مساوئ تعريض المجتمع ومؤسساته للمنافسة العالمية.
ومن هنا يرتبط مصير آل مجتمع بالاستراتيجيات التي تصوغها نخبه الاجتماعية في مواجهة العولمة ونجاحها في تثمير عناصر القوة التي تملكها في إطار سيطرة منطق المنافسة الدولية المفتوحة، وتغلبها على عناصر الضعف التي يعاني منها مجتمعها ومؤسساته.
أما المجتمعات التي لا تملك مثل هذه الإستراتيجية أو التي تفتقر لنخبة اجتماعية مسئولة، أو على قدر كبير من الالتزام الوطني والشعور بالمسؤولية، فليس هناك شك أن العولمة تحكم عليها بأن تتحول إلى طعام للآخرين وميدان لتحقيق مكاسب مجانية لهم.
وهذا ما يفسر التقدم الكبير الذي حققته بلد مثل الصين عندما نجحت في الحفاظ على وحدة سوقها الوطنية الواسعة، في تحويل نفسها إلى قطب جاذب لرأس المال العالمي، بالرغم من الفقر الشديد الذي يعاني منه مجتمعها واقتصادها.
وهي اليوم المستفيدة الأولى من نظام العولمة الاقتصادي. وهو أيضا ما يفسر ما ولد في العقود القليلة الماضية من تكتلات وروابط اقتصادية جمعت العديد من الدول الصغيرة والكبيرة التي كانت بعضها في عداء شديد في الماضي، في سياق تأهيل نفسها لدخول عصر العولمة وما يتميز به من انفتاح حقل المنافسة العالمية ليس على الصعيد الاقتصادي والتقني والعلمي فحسب ولكن على الصعيد الثقافي أيضا فلا تعني العولمة تعويم النظام الاقتصادي الوطني وحده ولكن تعويم آل النظم المجتمعية، العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية من دون تمييز.
ففي سياقها سيشعر الفرد المتمكن من الموارد بأنه أمام اختيار لا حدود له في جميع الميادين وأن ما كان مفروض عليه كحقائق نهائية ووحيدة، لأنها حقائق وطنية أو ذات مشارب محلية، ليست إلا نظما عادية يستطيع التخلي عنها أو عن بعض أجزائها وقيمها ليبني هو نفسه، نظامه الخاص بقدر ما توفره له العولمة أو المنافسة العالمية من موارد وقدرات وتطلعات وآمال.
لكن الفرد المحروم من الموارد سيشعر، بالعكس تماما من ذلك، بضياع تام وسيفقد أي علام في توجهه العام وفي سلوآه الشخصي معا. وهو ما يهدد بتعميم نوع من الفراغ النفسي والأخلاقي والثقافي معا ومهما كان الحال، تنحوا العولمة الراهنة إلى تحويل جميع نظم العلاقات القديمة، الدولية والوطنية، السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، إلى نظم ضعيفة عاجزة عن استيعاب دينامية التحولات الجارية، وتقضي عليها بالتقادم والبلاء. لكنها وهي تفكك هذه النظم تترك المجتمعات أيضا في حالة من الفوضى، أي السيولة والاضطراب والقلق والشك، هي ما يميز الحقبة الراهنة، خاصة في تلك المناطق من العالم التي لا تملك أي وسيلة للتأثير على مصيرها أو التي لا تعي ما ذا يجري لها.
ولأنها تقوم بالأساس على الفرضية القائلة بأن السوق هو الكفيل وحده، إذا لم تتدخل القوى السياسية فيه، بالكشف عن الانسجام في العلاقات الاجتماعية والدولية، وترفض إخضاعه لأي معايير أخرى سوى ما يتعلق بتنظيمه وضمان اتساق العمليات التجارية، تهدد العولمة الليبرالية المجتمعات، والضعيفة والصغيرة منها بشكل خاص، بأن تنتظر زمنا طويلا جدا قبل أن تستعيد بعض توازنها، بعد أن ينجح الرأي العام العالمي في تنظيم نفسه والدفع في اتجاه إخضاع العملية الاقتصادية والسوق لمعايير إنسانية تسمح بإعادة بناء النظام العالمي على أسس تتجاوز منطق السوق وتضمن الاتساق والانسجام بين جميع الأطراف.
وفي انتظار ذلك ليس هناك شك في أن المحدد الأول في استثمار فرص العولمة يبقى وربما لفترة طويلة السوق الرأسمالية نفسها، بما تعنيه من موارد بشرية ورأسمال ومشاريع اقتصادية وسوق استهلاكية.
ولهذا السبب بالذات كان اتجاه الرد على العولمة الليبرالية في الدول الصناعية إعادة هيكلة السوق الاقتصادية أولا، من خلال بناء الروابط والاتحادات الإقليمية، آما هو الحال في أوروبة وفي جنوب شرق آسيا وفي أمريكا اللاتينية.
أما في البلدان ذات الحجم القاري مثل الصين فقد كان الحفاظ على الوحدة الإقليمية لدولة بحجم القارة الأولوية إزاء أي هدف آخر آما عبر عن ذلك خيار الانفتاح الاقتصادي الواسع مع الحفاظ على السلطة الأحادية... يتبع
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.