قد يكون داعيا للغرابة حين تسمع ما أثبتته الفيلسوفة الألمانية زيكريد هونكه في كتابها"شمس العرب تسطع على الغرب" من الثناء والإعجاب بإنجازات العرب، و تقارن بينه وما عليه العرب الآن من تخلف مريع وابتعاد نسبي عن التأثير في حلبة صراع الحضارات وتنافسها على الريادة وتحقيق الذات.
بيد أنك حين تنظر إلى الأمور بعقل فاحص متحرر من الأحكام المسبقة، ومجرد من التوصيفات المعلبة التي طالما ساقها البعض كتعليلات لما ينتاب الذات العربية الراهنة من فتور، ستكتشف بسهولة مكامن الخلل والداء من خلال رصد بعض المسلمات التي أضحت جزء من كيان الذات العربية تعزي إليها كل أسباب الفتور والتأخر عن ركب الحضارات التي تقع على تخومها.
فلا أحد يرضى بشكل عام عن الوضع العربي على مستواه الفردي، لكن ذلك لن يغير شيء ما دام الكل يلقي باللائمة حصرا على الواقع السياسي متمثلا في الاستبداد والدكتاتورية التي ترزح تحتها البلدان العربية وإن تفاوتت حدة ذلك من بلد إلى آخر .
غير أن الذي لم يعطه الناس أهمية كبيرة في شل حركة النهضة والتقدم هو الجانب الإيديولوجي والمعرفي، لا سيما أن جل الباحثين العرب لا يزالون يستندون إلى تقديم الذات العربية استناداً إلى رأس المال الرمزي التاريخي المتمثل في الفتوحات الدينية وصناعة الحضارة التي اضطلع بها العرب في غابر الأيام، متناسين أن التاريخ لا يصنع الحضارة ما لم يجد واقعا حيا يدعمه، فلو كان التاريخ ينفع وحده لكان قد أفاد اليونان ذا الحضارة العريقة التي يشهد الجميع بعبقريتها التاريخية الفذة.
ولا يعني هذا البتة أننا نريد قطع صلة الأمة بماضيها المشرق، وإنما لا نريد فقط أن نجعل منه مدينة فاضلة نعيش في أوهامها، في الوقت الذي يحتدم من حولنا صراع الحضارات نحو تحقيق الذات وإثباتها بلا هوادة.
كما أنه ليس من الحكمة أيضا أن تظل الحضارة العربية تعتقد موقنة في مسألة المؤامرة الأبدية وأن الغرب بحضارته يسعى لعرقلة تقدمها وأنها معذورة؛ وهي فكرة شائعة بين المثقفين العرب ورجال الدين إن لم تكن عند الناس العاديين، والواقع أنه إذا كانت هناك فعلا قوى غربية تسعى إلى عرقلة التقدم، فإن تلك القوى ما كان لها أن تصل لهدفها ولا يحالفها النجاح في مساعيها، ما لم يكن هناك في داخل الأمة أسباب ممهدة لذلك، أو كما يسميها المفكر الجزائري مالك بن نبي "قابلية الاستعمار" فلا يمكن لأمة أن تستعمر إلا إذا كانت أصلا تحمل في جوفها جينات ثقافية واجتماعية وسياسة تخولها لذلك.
غير أن المسألة الأخطر أن الذات العربية في سبيل تحقيق ذاتها لا تسعى إلا للمحاكاة وتغض الطرف عن أخذ زمام المبادرة، ونعني بذلك أن الحضارة العربية ما دامت تقر بالتفوق للحضارة الأوروبية وغيرها من الحضارات الصاعدة كالحضارة الصينية واليابانية، فإنها مع ذلك لم تسع إلى التفاعل بشكل إيجابي معها حتى الآن، وإنما سارت على طريق التقليد الأعمى، فالعرب والمسلمون منذ احتكاكهم بالحضارة الغربية لم يقفوا منها موقف النِّدِّ والنظير وإنما موقف المنبهر الخاضع.
كما أن إعجابهم أيضا لم ينصرف إلى القضايا الجوهرية في الحضارة الأوروبية، وإنما أعجبوا فقط بمظاهرها الخارجية لا بطاقتها الفكرية والمعرفية الخلاقة، فاستحسنوا منتجاتها الاستهلاكية أكثر مما استحسنوا ذهنيتها العلمية، وحسبوا أن بإمكانهم اللحقاق بالحضارة الغربية بل وتجاوزها بمجرد استيراد مصانع وخبرات يديرونها إذا اقتضى الأمر.
وللأسف الشديد أن هذه النظرة لا تزال راسخة في العقل العربي المعاصر ؛ فجل العرب والمسلمين يعتقدون أنهم يكفيهم الاستيراد، ولذا طغت لديهم وترسخت العقلية الاستهلاكية على حساب الذهنية العلمية الخلاقة.
زد على ذلك غياب الاستراتيجيات الفكرية الواضخة للنهضة، إضافة إلى اجترار فكرة الاكتفاء والتفوق التاريخي التي تسكن الإنسان العربي المسلم، دون أن يضع هذه الفكرة على محك النقد أو يخضعها للفحص والمراجعة؛ وتلك إشكالية أخرى فالأمة العربية اليوم ما لم تعد تقيم وزنا و أهمية للنقد الذاتي ستظل هاجعة تتلذذ بأحلامها الواهية في حين سيحلق غيرها إلى الفضاء لتذليله؛ وهذا ما يحدث اليوم تقريبا فالنقد والتمحيص والمراجعة في عرف الحكومات العربية شتيمة وانتهاك للقوانين يعرض صاحبه لما لا تحمد عقباه.
وما هذا في حد ذاته إلا نمطا من أنماط الانغلاق وغياب الحرية؛ وهي شرط ضروري- كما هو معروف- لأي تقدم، فلا إبداع بلا حرية على الإطلاق، كما أنه لا يمكن تحقيق الحرية من دون تحقيق دون الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي.
لكن لا نعني بالاستقلال هنا أن تأخذ الأمة نفسها وتعزلها عن العالم وتقضي على أي أمل في التفاعل، بالعكس، يجب أن يكون هناك تواصل عميق بين الحضارة العربية الراهنة وبين الحضارات التي تجاورها كالحضارة الغربية التي تعتبر الآن مركز العالم، والتي تعتبر محل إعجاب، لكن لا ينبغي أن يكون هذا الإعجاب إعجابا أعرجا يقود إلى الارتماء كليا في الأحضان، كما أنه لا ينبغي أيضا ذلك الانكفاء الذي يضع الحواجز؛ لإننا ببساطة في عصر لا يعرف الحدود.
ولئن كان المفكر المغربي محمد عابد الجابري- وهو من أشهر مفكري العرب المعاصرين الذين استأثروا باهتمام الحضارة العربية الراهنة- يقول : " إن الذات العربية الراهنة تفقد استقلالها لكونها تنطلق من مرجعيتين منفصلتين عنها، إحداها تتعلق بالماضي العربي الإسلامي والأخرى بالحاضر والمستقبل الأوروبي" وأن على هذه الذات أن تحدد مكانها بأن تقف في الوسط تأخذ ما يناسبها من الماضي الإسلامي، وما يناسب من الواقع الأوروبي، فإننا نقول إنه و إن كان قد صدق فعلا في كون الذات العربية الراهنة تفقد اسقلالها، فإن الحل الذي قدمه ويشاطره فيه كثيرون، لم تعد الظروف مواتية له؛ لأن العالم بات قرية، مفتوحا على مصراعيه، والعوامل بتشابكها لم تعد تسمح للإنسان بأن يقف ليختار ويرفض وإنما تفرض عليه الاندماج وإثبات الذات في نفس الوقت من خلال الإنجاز العلمي.
غير أن ثمة مسألة مهمة يجب التنبيه لها في هذا السياق، وهي أن تأخرنا العلمي نابع بالأساس من تأخرنا الفكري والفلسفي، ذلك لأنه من الشروط الأساسية لإنتاج العلماء والمفكرين في أي أمة هو إنشاء أرضية فكرية صالحة لذلك، ويترتب على ذلك أن محاولة استيراد العلوم الأوروبية واستنباتها في التربة العربية بكل تجلياتها رهين باستنبات الفلسفة الأوروبية أولا؛ لأن تلك الفلسفة هي التي انتجت وأطرت العقلية العلمية التي نقف منها موقف الانبهار.
وللتأكيد على هذا الطرح نستدعي المفكر اللبناني الشهير عبد الرحمن مرحبا الذي يقول في هذا المجال :" إن علوم اليونان تاريخيا لم تدخل أرض الخلافة لو لم تدخلها فلسفة وعقلية اليونان، مثلما أن علوم العرب لم تدخل أوروبا اللاتينية لو لم تدخلها فلسفة العرب وعقلية العرب.
ولهذا نستنتج- بالنظر إلى أن العلم صار عجلة التقدم وآلية التأثير- أنه لا أمل ولا إمكانية أن نظفر بالعلوم الأوروبية ما لم نتقبل الفلسفة الأوروبية وطريقة التفكير الأوروبي، لكن يجب أن يكون ذلك بطريقة واعية.
كما أنه ما من سبيل أيضا إلى تحقيق الذات العربية لذاتها في ظل هذا الواقع والتحديات التي ذكرنا آنفا، ما لم تعتمد الأمة على اللغة العربية التي غدت مهمشة مع عدم إهمال اللغات الأجنبية؛ وآية ذلك أن المخيال الإبداعي العربي ما كان لينسجم ويطاوع إلا انسجاما مع لغته الأم اللغة العربية التي يألفها، أما ما دامت الأمة العربية تراهن دوما على استنساخ ما عند غيرها وتحاول تبيئته بحذافيره، فإنها ستظل غارقة في التخلف والتبعية العمياء، فلا تستطيع أن تحقق استقلالها، ولا اللحاق بالأمم والحضارات التي تقدمتها علميا وثقافيا وفكريا.